بقلم.. وائل قنديل
لم يعد بمقدور أحد أن يدّعي أنه يمارس تطبيعًا إعلاميًا، من أجل خدمة القضية الفلسطينية، أو لسد جوع المواطن العربي للمعرفة. وبالتالي، لا يحق لأي مطبّع أن يستخدم اسم فلسطين لتبرير رغبته الخاصة في مد الجسور مع أبواق الاحتلال الصهيوني.
الفلسطينيون، مجتمعين، جدّدوا رفضهم القاطع كل صور التطبيع الإعلامي، بل وقرّروا اعتماد آليات جديدة للتصدّي لحالة الشبق التي تنتاب وسائل إعلام عربية كثيرة، وبحسب مخرجات لقاء للفصائل الفلسطينية، انعقد في مدينة غزة، فقد وقع ممثلو الحركات والقوى السياسية الفلسطينية ميثاق شرفٍ لمواجهة وباء التطبيع المستفحل في وسائل الإعلام العربية.
اللقاء الذي أقيم قبل يومين لم يحظ، بالطبع، بالتغطية الإعلامية المناسبة، على الرغم من أهميته في هذه الفترة التي تشهد ارتفاعًا لافتًا في وتيرة التطبيع الإعلامي، إذ تجاهلته غالبية المنابر الحريصة على استضافة سياسيين ومحللين صهاينة، فيما سلطت بعض المنابر، منها "العربي الجديد" ومواقع فلسطينية ولبنانية، الضوء على توصيات اللقاء والمشاركين فيه.
بحسب البيان الصادر عن اللقاء، أكدت الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، ضرورة مواجهة التطبيع الإعلامي مع الاحتلال الإسرائيلي، وعدم السماح بإجراء أي لقاءاتٍ إعلاميةٍ مع وسائل إعلام إسرائيلية، أو الظهور في وسائل إعلام تستضيف شخصيات إسرائيلية، تحت أي ظرف.
يُفهم من صياغة هذه التوصية أن الفلسطينيين بصدد البدء بمقاطعة وسائل الإعلام العربية المتورّطة في التطبيع، وهذا تطوّر شديد الأهمية في إجراءات المواجهة، بالنظر إلى أن المسألة، في بعض تجلياتها المشينة، صارت اختيارًا للانحياز للرواية الصهيونية، أكثر من كونها مسألة مهنية، تتخفّى خلف ذرائع وحجج غير مقنعة، من عينة معرفة كيف يفكر الاحتلال، أو مناظرته وإحراجه وفضحه، فالشاهد أن لدى الكيان الصهيوني كما هائلا من النوافذ التي يطل بها على المتلقي العربي، ويمارس من خلالها اختراق وعيه، سواء عن طريق المواقع الناطقة بالعربية، أو من خلال الانتشار الكثيف لحسابات الأبواق الصهيونية، الرسمية وغير الرسمية، على مواقع التواصل الاجتماعي.
ما أفهمه، بالفطرة، وبالمنطق، وبالمعادلات الحسابية البسيطة، إن كل خطوة تقربك من الكيان الصهيوني تبعدك عن فلسطين، وأي مساحاتٍ ممنوحةٍ للصهيوني كي يقوم بتسويق روايته، هي في اللحظة ذاتها مساحات مقتطعة من الفلسطيني المعتدى عليه وصاحب الحق.
أيضًا، كل استدعاء للصهيوني، للاستعانة به في نزاع إعلامي أو سياسي مع عربي، حتى لو كان مطبعًا أو مؤيدًا لاستبداد، هو درجة أسوأ ومستوى أكبر من التطبيع، الذي لا أفهم له تعريفًا سوى التعامل مع العدو والترحيب به ومحاورته وتوجيه الشكر له على كلامه.
الشاهد أن الفلسطينيين أقاموا الحجّة على كل منابر الإعلام العربي، وأظنها فرصة لإنعاش ذاكرة النقابات والاتحادات المهنية العربية، بتراثها المحترم في تجريم كل أشكال التطبيع، ومعاقبة وتجريس أعضائها الذين يمارسون هذا العمل المخلّ بالشرف المهني والقومي، وفي ذلك تحفل أرشيفات النقابات العامة في معظم الدول العربية بتوصيات وقرارات جمعياتها العمومية التي ترفض التطبيع، وتعتبره إخلالًا بشروط العضوية.
وإذا كنا نعيش مرحلةً تتسابق فيها الحكومات العربية على التطبيع مع العدو الصهيوني، فإن الواجب الأخلاقي والمهني يفرض على التجمعات العربية غير الرسمية، أن تكون سدًا ضد التطبيع، وسندًا للشعب الفلسطيني الذي بات لا يواجه، فقط، آلة الدعاية الصهيونية، وإنما يواجه كذلك إعلامًا عربيًا يفتح أبوابه ونوافذه للصوت الصهيوني.
وأحسب أن أقل ما يمكن للمثقف أو السياسي أو الإعلامي العربي أن يقدّمه لفلسطين أن يتبنّى ما ورد في ميثاق الشرف الإعلامي الفلسطيني، من توصياتٍ ضد التطبيع، وأن يمتنع عن المشاركة في لقاءاتٍ على منابر تصر إصرارًا على أن تمنح نفسها لأبواق الدعاية الصهيونية .. هذا أضعف الإيمان، حتى تتوقف الفضائيات العربية عن فرض التطبيع إلزاميًا ومجانيًا، كالماء والهواء، على المشاهد العربي، باستضافة "شلومو" و"كوهين" و"أفيخاي" مع منحهم لقب "السيد".
أضف تعليقك