بقلم: وائل قنديل
زار عبد الفتاح السيسي الخرطوم، فقالوا إن هذا أفضل يوم مر على مصر والسودان في التاريخ .. اشترى السيسي أربعة كيلو موز، فأعلنوا أن هذا يوم عيد في مصر.
مصادفةً مر السيسي بالشارع الذي يقف فيه بائع الموز العجوز، ومصادفة كان هذا البائع مريضًا لا يجد العلاج، والمصادفة الأضخم أن فريق تصوير كاملًا وجاهزًا ومجهزًا بمعدّاته وأدواته كان موجودا في المكان .. أما كبرى المصادفات فهي أن الخبر بالصور الفوتوغرافية ولقطات الفيديو وصل بصياغة موحّدة، وفي توقيت واحد، إلى جميع المواقع الصحافية ومنصات النشر الإلكتروني.
طبعًا، لست في حاجةٍ لتدرك أن المصادفة أيضًا هي التي دفعت بائع الموز، الذي بنيت عليها القصة المعنونة "السيسي إنسانًا"، لكي يجرى مداخلات مع قنوات فضائية، يحكي فيها كيف انفتحت له طاقة القدر، برؤية زعيم الإنسانية الذي وفر له مكانًا للعلاج فورًا، وكيف أن الزعيم الشريف العفيف أصرّ إصرارًا وألح إلحاحًا على دفع ثمن الأربعة كيلو موز.
يكاد المشهد يكون منقولًا من دراما الحياة السياسية التركية، فقط ضع السيسي مكان أردوغان، وضع الموز بدلًا من الكستناء، لتكتشف، بالمصادفة كذلك، أن كل حكام الشرق يمارسون طقوس الشعبوية في الداخل، كلما كان الوضع محرجًا في الخارج.
لا يفصل بين الرسائل المدوّية التي أطلقها سفير السعودية السابق في القاهرة، أحمد قطان، وإحراق بخور الشعبوية السيسية، سوى ساعات معدودات، هي ذاتها الساعات التي شهدت دقّ طبول الوطنية الشعبوية في مواجهة إثيوبيا، وإعلان النفير العام لكي يحمي الشعب نهره الخالد، بالالتفاف حول زعامته التي تشتري الموز من شوارع مدينة نصر، في رسالةٍ شديدة اللهجة إلى حكام أديس أبابا.
في هذا الأجواء، تتطاير دعوات في الداخل، تلتمس من السيسي أن يفتح الميادين لجماهير الشعب المصري لكي تتظاهر ضد إثيوبيا، مع دعواتٍ أخرى تطلب من المصريين في الخارج الاحتشاد أمام مقرّات برلمانات دول العالم وحكوماتها، لإجبارها على ممارسة ضغوط على إثيوبيا لكي تتراجع عن سيناريوهات تعطيش المصريين وتعريض حياتهم للخطر.
ليست المشكلة في وعي الجماهير بالخطر، وإدراكهم كارثة شحّ المياه في المستقبل، وإنما المشكلة الحقيقية أن من يحكمون المصريين لا يمتلكون هذا الوعي، وذلك الإدراك، والأهم أنهم لا يملكون الاحترام لشعبهم، المسحوق بالقمع الأمني والتوحش في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
الموقف في معركة مياه النيل شديد الصعوبة بالفعل. وبصرف النظر عن أن المسؤول عن هذه الصعوبة هو شخص واحد انفرد بالتوقيع على إعلان مبادئ مع الجانبين، الإثيوبي والسوداني، منح فيه الإثيوبيين ما لم يحلموا به من وصايةٍ على منابع النهر. وبعيدًا عن أن هذا الشعب لم يؤخذ رأيه قبل التوقيع على هذا الإعلان الكارثي. بصرف النظر عن هذا كله، فإن هذه النوعية من المعارك المصيرية لا تُخاض بالهتافات وحملات المبايعة الشعبية، ولا بالتظاهرات في الداخل والخارج، ولا أثر لها في معادلات التفاوض والنزال الدبلوماسي بين الأطراف المتصارعة، وخصوصًا عندما لا يرى هذا الطرف أو ذاك شعبه إلا بوصفه عبئًا على ميزانياته وبرامجه وخططه الاقتصادية، ويعنّفه طوال الوقت لأنه شعب كثير العدد.
الحاصل أن نظام عبد الفتاح السيسي يعلق فشله واستبداده وديونه ومظالمه الاجتماعية والسياسية على الوفرة السكانية للشعب المصري، كما أنه، من جانب آخر، تساوره الهواجس والشكوك في إمكانية أن ينتفض هذا الشعب، ويثور ضد الوضع الراهن مرة أخرى، وهو ما ينعكس في استقبال الدوائر المحيطة به دعوات التظاهر ضد إثيوبيا، بوصفها خبيثة وخطرة، قد تنقلب تظاهراتٍ ضد النظام نفسه.
في المحصلة، لن يستفيد من مثل هذه الدعوات، حال الاستجابة لها، سوى هذا النظام، في الداخل، لكي يبقى أي حديث عن ديمقراطية أو حريات أو عدالة اجتماعية نوعًا من الترف، يرقى إلى مستوى الخيانة والتآمر في هذه اللحظة العصيبة من عمر الوطن. وإثيوبيا لن تردعها تظاهرات تسيّرها السلطة المصرية بمعرفتها، كما أن العالم ينظر بسخريةٍ إلى دعوات ساذجة، مثل دعوة تغيير صورة البروفايل على "فيسبوك" التي أطلقتها دار الإفتاء المصرية لتخويف أديس أبابا.
للمرة الألف، الأمم لا تكون مهيأة لمعارك الحرب، أو التفاوض، إذا لم يكن حاصل جمع مكوّناتها البشرية والجغرافية والاجتماعية واحدًا صحيحًا. كما أنها لا تكون قادرةً على حسم، أو إدارة صراع خارج حدودها، إذا كانت غارقةً في صراعٍ مع نفسها في الداخل، وتضع أبناءها المخلصين في صدارة لائحة أعدائها اللدودين. وبالتالي، تهدر معظم قدراتها المادية في الحرب على نفسها. الموضوع.
باختصار، أن إثيوبيا كانت محتشدة بكل طاقتها لتعلية السدود وبنائها على نهر النيل، بينما أنت كنت مشغولًا، فقط، بتعلية أسوار السجون، وبناء سجون إضافية .. تلك هي المسألة.
أضف تعليقك