بقلم: أشرف دوابة
وضعت منظمة الأمم المتحدة، مجموعة من 17 هدفاً في خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وقد ذُكرت هذه الأهداف في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 أيلول/ سبتمبر 2015 وفي 1 كانون الثاني/ يناير 2016، وقد غطت تلك الأهداف مجموعة واسعة من قضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية (الفقر - الجوع - الصحة – التعليم - تغير المناخ - المساواة بين الجنسين – المياه - الصرف الصحي – الطاقة – البيئة - العدالة الاجتماعية).
وقد تعددت تعريفات التنمية المستدامة، ومن أهم تلك التعريفات وأوسعها انتشارا ذلك التعريف الوارد في تقرير "بروندتلاند" الذي نشر من قبل اللجنة غير الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين بزعامة "جروهارلن بروندتلاند"، والذي عرف التنمية المستدامة بأنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها".
ورغم الاهتمام بالتنمية في الدول الغربية إلا أنها تنمية عاشت حبيسة الماديات وتعظيم الربحية للمنتج والمنفعة للمستهلك مع إهمال الجوانب الروحية، رغم أن الإنسان خلق من مادة وروح والتوازن بين الأمرين هو سر الحياة الطيبة.
والرؤية التنموية تنبعث في الإسلام من قضية الاستخلاف وفلسفته في العلاقة بين الإنسان والكون ومالكهما رب العالمين. وهو مفهوم يجمع بين التنمية الروحية والمادية ويُعلي من شأن النفس الإنسانية، ويضعها موضع التكريم اللائق بها، والذي يُمَكِّنها من أداء دورها في تعمير الكون وتحقيق العبودية الخالصة لخالق هذا الكون وحده. قال تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30)، وقال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود:61).
إن مفهوم التنمية في الإسلام يتجاوز المنظور المادي وتحقيق الرفاهية القائمة على إشباع متطلبات الجسد، ويمتد إلى طلبات الروح والعقل التي لا تقل عن الناحية المادية في الحياة. فالإنسان بفكره هو الذي يصنع الماديات وقد توجد الماديات ولا يوجد الإنسان المفكر المتحضر.
وفي الإسلام تهدف التنمية بصفة أساسية إلى تحقيق الأمن المادي من الجوع والأمن المعنوي من الخوف "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" (قريش: 3-4). فالإسلام يريد من خلال عملية التنمية توفير الحياة الطيبة الكريمة لكل إنسان "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل: 97).. حياة تسمو بالروح والجسد، ويسودها روح الإخاء والتكافل والمودة والرحمة، وترفرف عليها مظلة الأمن والعدل والحرية والمساواة، وتخلو من شبح الجوع والخوف والكراهية والبغضاء والأثرة والطبقية المقيتة، وتراعي العدالة في توزيع الدخول والثروة حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم، حياة توازن بين منافع الأجيال الحالية والأجيال المستقبلية.
وبذلك سبق الإسلام تعريف وتطبيق التنمية المستدامة قبل أن يعرفها الغرب بعشرات القرون، فالأجيال القادمة في المنهج الإسلامي لها حق في ثروات الأجيال الحاضرة. وتطبيقا لذلك حث الإسلام الآباء على ترك أولادهم أغنياء لا فقراء، ففي الحديث الشريف "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" (رواه البخاري)، "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم). ويشير القرآن الكريم إلى الترابط بين الأجيال في صورة من التراحم والتعاطف في قوله تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" (الحشر: 10) ولقد استند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على هذه الآية في عدم تقسيم أراضي العراق على الجنود الفاتحين، بل فرض عليها الخراج لمصلحة الأجيال المتعاقبة وقال لمن خلفه: "تريدون أن يأتي آخر الزمان ناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم؟".
إن الإسلام بقدر حرصه على تحقيق النفع للأجيال الحالية فإنه يضع نصب عينيه منافع الأجيال القادمة، ومن ثم يجعل من التنمية المستدامة واقعا عمليا ملموسا، فتكون الأمة على مر العصور حلقات متماسكة يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها، ويعمل خلفها على نهج سلفها.. فتبا لحاكم أو أمة نُهبت خيراتها لصالح قلة منها وكُبلت أجيالها الحالية والمستقبلية بالديون، بدلا من تركها لأجيالها ميراثا من الموارد المادية والروحية يوفر لهم الحياة التي ارتضاها الله للبشر تكريما وتسخيرا ورزقا وتفضيلا: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء: 70).
أضف تعليقك