مساء الثالث من تموز (يوليو) 2013 وبعد دقائق قليلة من بيان الانقلاب العسكري، تم إغلاق عدد كبير من القنوات الفضائية داخل مدينة الإنتاج الإعلامي واعتقال جميع العاملين فيها من مذيعين وصحفيين، لإسكات أي صوت معارض يمكن أن يزعج السيسي في ما خطط له.
بعدها بأربعة أشهر فقط في مدينة اسطنبول التركية، كنت أجلس في غرفة ضيقة داخل مبنى سكني في منطقة الفاتح، برفقة خمسة شباب مصريين في اجتماعنا الأول كي نختار اسم القناة الفضائية الجديدة التي نعمل من أجل انطلاقتها لمواجهة هذا الانقلاب العسكري.
“مكملين”، هكذا ظهر الإسم فجأة على طاولة النقاش وكأنه هتاف هتف به أحد الثوار داخل ميدان التحرير، “إن كنا نريد قناة تعبر عن الثورة وتعارض الانقلاب، وإن كنا الآن في المنفى وقد تركنا وراءنا مئات المعتقلين والدماء في رابعة وما بعدها، فلا أفضل من اسم مكملين”.. هكذا قلت للأصدقاء ونحن نناقش غرابة الإسم وكيف يمكن إطلاقه على قناة فضائية.
طالب في الجامعة ومصمم جرافيك ومنتج برامج ومراسل محلي لموقع الكتروني وطبيب اسنان ومدرس، هكذا بدأت “مكملين” ولم تكن اختيارا، بل كانت مسارا إجباريا قررنا أن نمضي فيه منذ اليوم الأول وفاء لدماء سالت، وإخلاصا لتضحيات المعتقلين وأملا في استكمال الثورة وعودة العيش والحرية والكرامة الإنسانية للشعب المصري في مواجهة هذا الانقلاب العسكري الغاشم.
تركت “مكملين” ولم تتركن، تلك هي الحقيقة التي أعيشها وأصدقها في كل مرة يأتي فيها ذكر قناة “مكملين” في سياق أزمة جديدة أو نجاح إعلامي أو حتى في رسالة من معتقل يسألني عن حال قنوات المعارضة المصرية في إسطنبول.
كانت الثمانية والأربعون ساعة الماضية حافلة بكثير من الأخبار والتحليلات عن مصير “مكملين” و”الشرق” و”وطن”، وهل باعت تركيا هذه القنوات في مقابل تقاربها مع النظام المصري؟ أم أن الحقيقة مغايرة لما تم نشره على مواقع التواصل الاجتماعي؟
قبل الإجابة على سؤال كهذا، من المهم أن نتوقف قليلا لنسأل سؤالا آخر وهو: لماذا هذه القنوات تحديدا؟
منذ اللحظة الأولى كانت تلك القنوات حائط صد قوي ضد رواية نظام السيسي، فقد وثقت آلاف حالات الاعتقال والاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون وسامهت في إيصال صوت أهالي المعتقلين وذويهم للمؤسسات الحقوقية الدولية. في القضايا التي تمس أمن مصر القومي مثل تنازل السيسي عن تيران وصنافير كانت القنوات حاضرة وبقوة منذ اللحظة الأولى، نشرت شهادات وخرائط ومعلومات تؤكد مصرية الجزر وساهمت في فضح السيسي ونظامه بنشر تسريب بالصوت والصورة من داخل محاضرة للشئون المعنوية توضح تواطؤ قيادات الجيش في التنازل عن تيران وصنافير.
كشفت هذه القنوات فشل النظام في أزمة سد النهضة وتفريطه في مياه النيل كما سلطت الضوء على ارتفاع نسب الفقر في مصر وأزمات الشعب المصرية الاقتصادية، استطاعت تلك القنوات أن تصبح صدى صوت الشعب المصري تنقل أزماته ومشكلاته اليومية.
نهاية الأمر أن تلك القنوات قامت من أجل مبادئ سامية لا يحددها مكان بعينه، ومن يدري فربما عادت “مكملين” إلى شعارها الأول “من كل ميادين العالم انطلقنا”، فالميادين كثيرة وأرض الله واسعة والشعب المصري ينتظر من هذه القنوات الكثير.
كنت شاهدا بنفسي على إذاعة تسريبات مكتب السيسي التي جعلت العالم كله يسمع إلى السيسي وهو يسخر من حلفائه في دول الخليج وكيف ينهب أموالهم، كما كشفت التسريبات حقيقة دور الإمارات في دعم التمرد والانقلاب العسكري وكيف تحول النظام المصري برفقة محمد بن زايد إلى تجار سلاح في ليبيا.
كم مرة نشرت مواقع عالمية مثل “الغارديان” البريطانية أو “نيويورك تايمز” أو “بي بي سي” تقاريرا باللغة الإنجليزية عن هذه القنوات وما بثته من أخبار مهمة ومحطات صحفية مفصلية في السنوات الماضية. وهو إن دل على شيء إنما يدل على تأثير هذه القنوات الكبير ليس في الداخل المصري فقط وإنما في الخارج أيضا.
كل هذا كان سببا رئيسيا أن يستهدف النظام المصري وعلى رأسه السيسي هذه القنوات ويهدد العاملين فيها، في أيار (مايو) 2018 السيسي هدد العاملين داخل هذه القنوات بأنهم جميعا سيتم محاسبتهم ثم في أيلول (سبتمبر) 2020 قام بشكاية تلك القنوات للأمم المتحدة، اعتقل النظام المصري أسر مذيعين في تلك القنوات مثل معتز مطر ومحمد ناصر وهيثم أبو خليل، استهدفوا بيتي وبيت حسام الشوربجي، أسقطوا الجنسية عن غادة نجيب زوجة هشام عبد الله وهددوا العديد من العاملين بإسقاط الجنسية المصرية عنهم، وضعوا أسماء العاملين في قوائم ترقب الوصول، حكموا عليهم بمئات السنين غيابيا ووضعوا أسماءهم على قوائم الإرهاب.
يقول عمرو أديب: إن إغلاق القنوات هو مطلب غير مهم، وأقول له إن كان كذلك فلماذا تقومون بكل هذا من أجل إسكات صوت تلك القنوات، إن كانت بهذا القدر من عدم الأهمية لديكم فلماذا خرجت قناة العربية السعودية بعدد من الأخبار العاجلة الكاذبة تتدعي فيها إغلاق القنوات وترحيل العاملين فيها ووضع آخرين قيد الإقامة الجبرية؟ ألم تتعلم العربية وأخواتها في الإمارات ومصر من درس ليلة انقلاب تركيا؟ ألم يتعلموا من نشر أخبار كاذبة يوم حصار قطر؟ ألا يخجل هؤلاء من الكذب المستمر؟
بالعودة إلى تركيا، نعم هي دولة كبيرة ولديها مصالح ومن حقها أن تحترم مصالحها وتسعى من أجلها ولكنها أيضا دولة قانون وقفت مع الشعب المصري في أقسى وأصعب لحظاته ودعمت مطالبه قبل وبعد الانقلاب العسكري، ما لمسته بعد زوال غبار الثمانية والأربعين ساعة الأولى أن الموقف التركي لن يذهب إلى اغلاق القنوات.
نهاية الأمر أن تلك القنوات قامت من أجل مبادئ سامية لا يحددها مكان بعينه، ومن يدري فربما عادت “مكملين” إلى شعارها الأول “من كل ميادين العالم انطلقنا”، فالميادين كثيرة وأرض الله واسعة والشعب المصري ينتظر من هذه القنوات الكثير.
أضف تعليقك