ليس كل سحرٍ حراماً، فمن البيان ما يسحر العقول، وفي حُسن تبعّلِ المرأة لرجلها السحر الحلال، وقد يُوهَب المرءُ سجيةَ خيرٍ يُجمع عليها المنصفون فيسحر القلوب. «الماجيكو» الفتى العربي الذي سحر جماهير الكرة بقدمه الذهبية، وسحر المحيطين به بدماثة خلقه وعطاءاته وبذله، وسحر الأمة بأسرها عندما لم يفوت فيها مناسبة ينصر فيها قضاياها إلا وترك أثراً. بداية معرفتي باللاعب الأشهر في مصر والعالم العربي محمد أبو تريكة، عندما تابعت تلك الضجة الإعلامية، التي هزت الوسط حين كشف قميصه بعد إحراز هدف في إحدى المباريات، ليكشف عن تلك العبارة التي لا تزال ماثلة في ذهن كل من قرأها: «تعاطفاً مع غزة» نصرةً لشعب ذلك القطاع بعد العدوان الصهيوني الغاشم، الذي تعرض له في 2008، ذلك القميص الأبيض الذي دُونت عليه تلك العبارة الذهبية وأوصى اللاعب أن يدفن معه في قبره.
أبو تريكة هو اللاعب الذي كان خصومه من الفرق والجماهير في شتى البلدان العربية يخجلون من الإساءة إليه، فلم يترك لهم بمواقفه النبيلة الأخلاقية الإنسانية سبيلا إلى ذاك. أبو تريكة الذي لقب بأمير القلوب كان سندًا للفقراء، يمد يد العون إليهم، لم يُنسِهِ جريانُ الثروة أيامَ الفقر، فكان يشعر بألم الفاقة، فأنفق مما رزقه الله سراً وعلانية، حتى أن زملاءه يذكرون أنه يفتح عدة بيوت للفقراء (بمعنى ينفق عليهم). أبو تريكة الرياضي المسلم المتدين، كان يحرص على بناء المساجد في بلاد افريقيا التي يلعب فيها مبارياته. أبو تريكة الذي أعلن اعتزاله تضامنا مع أهالي مجزرة ضحايا بورسعيد، وتبرع وجمع التبرعات لأهالي الضحايا، وهو نفسه الذي نظّم – من خلال شراكته في شركة للسياحة – رحلات حج وعمرة لأهالي ضحايا الجيش والشرطة الذين سقطوا خلال العمليات الإرهابية. لكن هذه المناقب لم تقِ اللاعب بطش نظام بلاده، الذي صادر أمواله ووضعه على قائمة الإرهاب منذ بضع سنوات، ثم جاءت محكمة النقض نهاية الأسبوع الفائت لتؤيد إدراج اللاعب على قائمة الإرهاب بعد رفض الطعن المقدم منه. أبو تريكة ارتطم بأكثر المصطلحات المعاصرة مطاطية وتدليسا، وهي تهمة الإرهاب التي تلصقها الأنظمة المستبدة بمعارضيها، ولم يكن وضع اللاعب الخلوق على قائمة الإرهاب لشيء إلا لأنه كان مؤيدا لشرعية الرئيس الراحل محمد مرسي، ومعارضا للانقلاب عليه، فدفع ثمن ذلك غاليا، حيث اضطروه لاعتزال اللعب وهو في ذروة توهجه وائتلاقه، ودفعوه لأن يترك بلده ليعيش كسائر الملاحَقين في المنفى، وصادروا أمواله بغير جناية، بزعم أنه يمول الإرهاب. أبو تريكة حالة مختلفة ضمن الحالات التي غضب عليها النظام الانقلابي، فهو ليس كالمعارضين السياسيين أمثال الدكتور أيمن نور والدكتور جمال حشمت، وعلماء الدين أمثال الشيخ محمد الصغير والشيخ عصام تليمة، والمعارضين من فئة الإعلاميين أمثال: محمد ناصر ومعتز مطر وعبد الله الشريف وغيرهم، أو حتى من أهل الفن أمثال وجدي العربي، فهؤلاء يقومون بدورهم لإسقاط الانقلاب، من خلال وجودهم خارج البلاد عبر المنصات المتاحة. أما أبو تريكة، فلا علاقة له بالسياسة، ويجلس آمنا في سربه يمارس مهنته كمحلل رياضي، ولا يصدر أي تصريحات مناهضة، ويقابل إساءة الإعلام المصري بالصمت وعدم الاكتراث، وكثيرا ما يعبر كلامُه عن اعتزازه ببلده وشعبه، ويأبى أن يتجنّس بجنسية أخرى هو وأولاده، رغم إتاحة ذلك، ويشجع الفرق المصرية التي تلعب على الملاعب القطرية، فلماذا يصرون في مصر على وضع اللاعب على قائمة الإرهاب؟ ولماذا يصر الإعلام المُسيّس على شيطنته وتنفير الناس عنه بشكل أشد مِن فِعْلهم مع سائر المعارضين في الخارج؟
سؤال قد استوقفني، ولم أعثر على إجابة إلا ما سوف تحمله السطور التالية:
زعيم الانقلاب منذ أن قفز إلى سدة الحكم، وجُلّ ما يخشاه هو الماضي الثوري، لذا رأى أن يبدأ عهده بمذبحة بشعة (رابعة والنهضة) حتى تكون صورتها ماثلة أمام أي تطلعات ثورية، تعيد إنتاج ثورة كانون الثاني/يناير، التي أطاحت بحسني مبارك، أو تعيد فكرة المعارضة الجماعية المنظمة، كما حدث في اعتصام رابعة، وفي سياق هذا التوجه ركّز النظام على محو أي آثار للشرعية، التي انقضّ عليها، من ذاكرة الشعب المصري، وإزالة كل ما يُذكّر بها، لذلك عمد على سبيل المثال إلى استبدال اسم ميدان رابعة الذي أقيم فيه الاعتصام والمجزرة، باسم النائب العام الأسبق الذي اغتاله تنظيم إرهابي، بينما اتهم النظام بذلك جماعة الإخوان زورا وبهتانا. أبو تريكة أحد الأشخاص البارزين الذين يُذكِّرون الشعب المصري بالشرعية، وربما يمثل أهمية قصوى لدى النظام وإعلامه في أولويات التشهير والهجوم والشيطنة، أكثر من المعارضين السياسيين في الخارج.
وبيان ذلك أن المعارضين في الخارج، كان من السهل على النظام وإعلامه تشويه صورتهم أمام الشعب المصري، الذي يقبع أسيراً لما يروجه الإعلام المحلي الموالي للسلطة، إذ يخلط الإعلام على مسمع ومرأى العامة بين الهجوم على النظام، والهجوم على الدولة، ويجعله في حس الجماهير شيئاً واحداً، ليستنفر الناس لعداء المعارضين ووصفهم بالخونة أعداء الوطن، وهذا ما يسميه الأديب عبد الوهاب عزام في كتابه «الشوارد»: الشر الكبير، أن يُضلل الجهلة فيقدموا على أفظع الفظائع وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ظن ابن ملجم أنه يتقرب إلى الله بدم عليّ». وقد نجح الإعلام إلى حد بعيد في تشويه صورة المعارضين السياسيين في الخارج لدى الكثيرين من أبناء الشعب المُضلَّلين، وتلحظ ذلك في تعليقاتهم التي تعتبر مجرد انتقاد السيسي كراهية للوطن.
أما أبو تريكة، فهو شخصية حظيت بتوافق جماهيري، لم يتأثر الشعب المصري بنعيق الإعلاميين ليلا ونهارا لمحاولة تشويه صورته وتخوينه وشيطنته، خاصة أنه بعيد عن السياسة والتعليقات السياسية، ويحترم وطنه ويعتز به، لذلك لم تفلح كل محاولات تخوينه وإقناع الشعب بأنه يستحق إدراجه على قائمة الإرهاب، وهذا ما يثير جنون الإعلام الموالي للسلطة، لأن شخصية بهذا القدر تنتمي لعصر الشرعية وتُذكّر به، لهو شيء مزعج وغير مقبول لدى النظام. لا أدري متى يُرفع هذا الظلم عن كاهل المصريين، فقد تعاظم على نحو مريع، فهو كنارٍ تقتات على نفسها فتزداد اشتعالا، وذاك شأن الظلم، يُروى أن بعض الملوك نهى الجند عن نهب شيء ولو كان بيضة قائلا: «إن أساس الظلم كان ضئيلا، فما زال الناس يبنون عليه حتى بلغ ما بلغ» والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك