الحديث عن قنوات المعارضة المصرية التي تبث من تركيا احتل مساحة واسعة من الاهتمام الإقليمي وحتى الدولي خلال الأيام القليلة الماضية، بعد انتشار أنباء (غير دقيقة) عن تحرك تركيا لإغلاق هذه القنوات، وفي الحد الأدنى تحويلها إلى قنوات منوعات (لا سياسة) تجاوبا مع مطالب النظام المصري كـ"عربون محبة" أو خطوة على طريق مصالحة مستحيلة.
رغم ادعاءات متكررة عن محدودية تأثير هذه القنوات، إلا أن الأزمة الأخيرة كشفت قوة وانتشار هذه القنوات الثلاث (الشرق ووطن ومكملين) ومدى إيلامها للنظام المصري وممالك القمع العربية، التي بالغت في إظهار فرحتها بالموقف التركي الجديد تجاه القنوات، واعتبرت ذلك بمثابة ليلة عيد بالنسبة لها. وهذا يعني مباشرة كم كانت - وما زالت - هذه القنوات تؤلم هذه الأنظمة القمعية، التي أنفقت المليارات لمواجهة تلك القنوات "الضعيفة"، سواء بتأسيس عشرات بل مئات القنوات المناوئة لها، أو بمحاولات إغلاق أو التشويش على بث تلك القنوات "الضعيفة!!"، أو حتى تقديم رشى في صورة صفقات وتعاقدات لبعض الحكومات الأوروبية، خاصة فرنسا، لوقف بثها عبر القمر الأوروبي..
عاصرت شخصيا بدايات تأسيس هذه القنوات المناهضة للانقلاب، ورغم صعوبة الأوضاع إلا أن حماس الشباب وأصحاب القضية تمكن من تحطيم كل الحواجز والصعوبات.
ولعلي هنا أذكر القراء بأول قناة تأسست عقب الانقلاب مباشرة، فبعد إغلاق قناة "مصر 25" المعبرة عن جماعة الإخوان، سارع أبناؤها لتأسيس قناة في مقر الاعتصام في ميدان رابعة باسم قناة "أحرار 25"، وتم الحصول على معدات وتجهيزات تلك القناة وتركيبها في وقت قياسي، وحين تم فض اعتصام رابعة بما شمله من اقتحام تلك القناة ومصادرة محتوياتها، سارع أبناء القناة مجددا لتأسيس قناة في بيروت باسم قناة الميدان.
ظهرت بعد ذلك قنوات مكملين ورابعة والشرق ومصر الآن، وكانت بمثابة مدفعية ثقيلة في وجه النظام الجديد بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، معتمدة على إمكانيات ضعيفة. يكفي أن نعرف أن ميزانية تلك القنوات مجتمعة لا تعادل ميزانية برنامج رئيس في إحدى قنوات النظام المصري، لكن حماس الشباب من مذيعين ومعدين ومصورين ومشغلين غطى ذلك العجز في الإمكانيات المادية.
ولا يفوتنا هنا التنبيه أن كثيرا من العاملين في تلك القنوات لم يمتهنوا الإعلام من قبل، لكنهم تمكنوا في زمن قياسي من تطوير أنفسهم واكتساب خبرات مهنية لا بأس بها، وإن تسببت قلة الخبرة في بعض الأخطاء المهنية الروتينية.
وقد اختفت خلال السنوات الماضية ثلاث قنوات لأسباب متنوعة، وهي قنوات "مصر الآن" ورابعة التي حلت محلها قناة الثورة ثم اختفت بدورها، وقناة الشرعية، واستمرت فقط القنوات الثلاث الحالية التي مثلت ضغطا شديدا على نظام السيسي الذي عادى حرية الإعلام منذ يومه الأول؛ بإغلاق القنوات المناهضة له، ثم تكميم ما تبقى ونقل ملكية قنوات رجال الأعمال لشركة تابعة للمخابرات (الشركة المتحدة).
لم تجد هذه القنوات بإمكانياتها المحدودة دولة تقبلها سوى تركيا، كان من الممكن طبعا نظريا إطلاق قنوات من دول أكثر استقرارا، مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة، لكن التكاليف العالية جدا حالت دون الأمر، ومع ذلك يبقى أن هذه نقطة قصور في أداء المعارضة المصرية التي وضعت كل بيضها في سلة واحدة في تركيا، وكان عليها أن تتحمل تلك التكاليف العالية لتنويع مواقع قنواتها، وتجنب أي ضغوط محتملة.
وبهذه المناسبة يجدر التوضيح أن تركيا لا تقدم أي دعم مالي لهذه القنوات، فهي (القنوات) تدفع مقابل إيجار مقارها، وفواتير الخدمات الأخرى مثل الكهرباء والإنترنت والأقمار الصناعية، بالإضافة إلى أجور العاملين فيها. لكن تركيا وفرت لها مكانا لمكاتبها وقبلت بالعمل على أرضها مع ما سببه ذلك من ضغوط متتالية على الحكومة التركية، سواء من معارضة الداخل أو من أعداء الخارج.
مثل الموقف الأخير للإدارة التركية تراجعا عن التزامها الأخلاقي تجاه المعارضة المصرية وقنواتها، ولا يستطيع أحد أن يلوم هذه الإدارة؛ فقراراتها على أرضها هي قرارات سيادية، لا يحق لضيوف أن يعترضوا عليها، وكل ما يمكنهم هو ترك الدولة إلى مكان آخر إذا رأوا أن كرامتهم قد انتهكت، أو أن ضغوطا شديدة فرضت عليهم تمنعهم من أداء رسالتهم. ولكن المعارضة المصرية ومنابرها الإعلامية في تركيا تقدر أنها لم تتعرض لضغوط تمنعها من أداء دورها حتى الآن، وأن كل المطلوب هو ضبط الخطاب الإعلامي بما لا يخالف القوانين ومواثيق المهنة.
لم تكن الدولة التركية هي التي طلبت هذا المطلب وهو احترام القواعد المهنية، ولكن هذا المطلب هو توجه متصاعد داخل القنوات نفسها منذ فترة طويلة، في مقابل توجه آخر يعتبر أن هذه القنوات هي قنوات ثورة، وأن الصوت الثوري ضمن هذه الرؤية يعني استباحة الخصم السياسي بكل الطرق الممكنة، وذلك ردا على استباحة إعلام النظام لقوى المعارضة بكل الوسائل أيضا. والحقيقة أن هناك تدافعا بدأ منذ أكثر من سنتين بين هذين التوجهين داخل القنوات، ولذا تجد داخل القناة الواحدة برنامجا يميل إلى العقلانية المهنية، بينما يميل آخر إلى التوجه الثوري بمفهومه السابق. كما أن هذا الحوار وصل إلى رابطة الإعلاميين المصريين في الخارج (جمعية نقابية أنشئت حديثا)، ووصل الحوار داخلها قبل بضع شهور إلى ضرورة وجود ميثاق شرف إعلامي يلتزم به أعضاؤها، ويحاسبون مهنيا على اختراقه.
وفقا لتصريحات المسؤولين الأتراك، فإن الأمر لا يتعدى حدود ضبط الإعلامي. ووفقا للتصريحات ذاتها، فإن القنوات مستمرة في عملها، ولا إلغاء لبرامجها السياسية كما ظهر في وسائل الإعلام المصرية وصفحات التواصل الاجتماعي. ولكن ذلك لا يعني أن الأمر سيتوقف تماما عند هذا الحد، وهذا ما يدعو للتفكير في بدائل آمنة تكمل بها تلك القنوات أداء رسالتها الإعلامية، خاصة أن تلك البدائل متاحة بالفعل.
أضف تعليقك