بقلم: وائل قنديل
بالقطع، كان حفلًا مبهرًا ومدهشًا وعظيمًا جدًا، خطف الأبصار وحرّك المشاعر، وأشعل جمر الوطنية، المبتذلة منها والمحتفظة بوقارها، المصطنعة منها والحقيقية.
وكما قال كل من شاهد ولم يشاهد، جاء حفل المومياوات العابرة ميدان التحرير متجهة إلى الفسطاط، ثريًا في الإخراج والموسيقى والأداء والتنظيم، ومفخرة بحق لفرق الفنيين والفنانين التي أنتجته، حتى وإن كان لا أحد يعرف المناسبة التي دفعت منظومة حكم عبد الفتاح السيسي إلى افتتاح المشروع الذي انتهى منه وزير الثقافة السابق، فاروق حسني، وكان مقررًا افتتاحه قبل ثورة يناير 2011.
المهم أن عبد الفتاح السيسي استقبل، بابتسامته الاصطناعية المجففة، الـ 22 مومياء، وحياهم زميلًا زميلًا، بوصفه الفرعون الأخير، فبدا مع كل خطوة وكل إيماءة وكل كلمة وكأنه يريد أن يقول للجميع إنه واحد من هؤلاء الملوك المحنّطين، وإن كان لافتًا أن زوجته السيدة انتصار لم تنفرد بالملكات الأربع في الصالون الرئاسي الخاص، إذ استأثر الفرعون العسكري باستقبالهم جميعًا، ملوكًا وملكات، تحت الأضواء الباهرة التي كانت مسلّطة عليه أكثر من الفراعنة السابقين أنفسهم.
ثمّة سؤال فرض نفسه مع وقوع مذيع إحدى الفضائيات الناقلة للحدث في خطأ مضحك، حين استبدّ به الحماس للفرعون ذي الخلفية العسكرية، فقال إن الزعيم يستقبل أحفاده، قبل أن يصحّح خطأه في الجملة التالية من دون أن يعتذر، ويقول "يستقبل أجداده". .. والسؤال في هذا الطقس المذهل هو: هل كان هذا الحدث الكبير احتفالًا بعبد الفتاح السيسي في حضور المومياوات، أم احتفالًا بالمومياوات في حضور السيسي؟ هل كانوا يحتفلون بالأسلاف العظام، أم ينظمون حفلًا لتحنيط ذلك الذي يرى نفسه حفيدهم وامتدادهم وزميل عظمتهم في كتاب التاريخ؟ وهل كان الإصرار على جعل ميدان التحرير مسرحًا لحفل تدشين السيسي فرعونًا ضمن الملوك نوعًا من النكاية، والإمعان في إهانة أكثر مكان يكرهه السيسي ويخشاه، ويرى فيه منبع الخطر، كونه عنوانًا للثورة والغضب على الفراعين المزيفين؟
الشاهد أن الارتباط وثيق بين فكرة الطغيان والاستبداد وبين المظاهر الفرعونية الزاعقة، كما أنك تجد في تاريخ مصر الحديث، منذ ثورة 1952 زيارة لكل الحكام العسكريين إلى التاريخ الفرعوني، باعتبارها الوصفة الأسهل والأرخص لملء أوعيتهم بمفاهيم للوطنية التي تجعل من الوطن وحاكمه شيئًا واحدًا، يتّخذ شكلًا من التقديس ويكتسب قيمة معيارية، على أساسها تحتسب نسبة الولاء لدى كل مواطن.
جمال عبد الناصر، في العام 1961 وعقب انهيار مشروع الوحدة العربية مع سورية، قرر استدعاء الفرعونية من توابيتها، فكان تدشين مشروع الصوت والضوء، في احتفال لم يقل بهرجة عن حفلة السيسي، فعزفت الموسيقى وغنى المطربون للزعيم، رفقة ولي عهد اليونان في ذلك الوقت، وهو في حضرة الأجداد الفراعنة عند الهرم، فيما كانت بنات فرقة "الثلاثي المرح" يغنين مناديات على أبو الهول: "الضوء والصوت والصوت والضوء .. خلو أبو الهول من نومته يفوق .. قوم يا أبو الهول اتهز وقول إن إحنا صحينا وصح النوم.. شوف واتفرج على حالنا اليوم".
رحل الضابط جمال عبد الناصر، وجاء الضابط أنور السادات، ليتواصل الحكم العسكري، مقترنًا بالفكرة الفرعونية، غير أن الأمر اتخذ شكلًا أكثر توحدًا مع الفراعنة عند السادات، إلى درجة أنه قال، في حوار مع الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، إنه وعبد الناصر آخر الفراعنة.
أما حسني مبارك، فكل ما شاهدته في مهرجان السيسي والمومياوات هو من موروثات مبارك التي لم يهنأ بها، إذ بدأ مشروع متحف الحضارة، وتم الانتهاء من معظم مراحله في زمن مبارك، الذي لم يسعفه الوقت ليضع نفسه مع ملوك الزمن الفرعوني.
بالعودة إلى حفل السيسي والمومياوات، فقد استهلكت كميات هائلة من الكلام عن الريادة الحضارية وإشعال الحديث عن الهوية، لتعود مجددًا تلك الاشتباكات العقيمة حول هوية مصر وشخصيتها، ويندلع الاستقطاب بشأن انتمائها التاريخي والحضاري، لتجد نفسك بصدد اللعبة السخيفة القديمة: صناعة التناقض بين العروبة والإسلام، وبين الفرعونية.
غير أن كل هذه الأضواء المبهرة والأصوات العالية لن تمنعنا من رؤية الدماء على الأيدي الهمجية التي تحتفل بالحضارة والتحضر، بينما علامات انحطاطها وسقوطها في قاع الهمجية واضحة للجميع.
أضف تعليقك