بقلم: عامر شماخ
ليس هناك ما يمنع المسلم من أن يفرح ويفخر؛ شرط أن يكون ذلك بحقه، وفى غير كبر ولا بطر ولا منقصة للآخرين، وأن يكون هو مُنْجِزَه وفيه الخير لدينه وبنى وطنه؛ (إن الفتى من يقول هاأنذا… ليس الفتى من يقول كان أبى)، والأهم: أن يُنسب الفضل فى هذا الإنجاز أو ذاك لله رب العالمين؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أما غير ذلك فهو ضِعَةٌ كما قال الإمام على (رضى الله عنه): «الافتخارُ من صِغَرِ الأقدار»، ويكون حمقًا كما ورد عنه أيضًا (نهج البلاغة؛ خطبة 221) فى تفسيره لقول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ): «أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجسادًا خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبرًا أحق من أن يكونوا مفتخرًا».
ولو أحيا الله الفراعنة وكلموا المحتفلين بجثثهم أمس الأول لتبرؤوا من فعلهم ولقالوا لهم مثلما قال الشيطان لأتباعه: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ…) [إبراهيم: 22]، ولقالوا خبتم وخاب مسعاكم فإنما ضُرب بنا المثل فى محاداة الله وعداوته، وقد كنا أشرَّ خلق الله وأكثرهم فسادًا وطغيانًا؛ (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) [الفجر: 10 -12]، ولزادوهم: إنما أبقى الله جثثنا للتذكرة والعبرة لا للتفاخر والفرجة؛ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 92]، ولذكَّروهم بالكتاب الذى هجروه وبأنهم فى النار يُعذَّبون؛ (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98].
إن إنفاق الملايين على حفل دعائى فى بلد أغلب سكانه تحت خط الفقر يفضح جهلنا كما يفضح واقعنا الملىء بالكوارث.. فها هو الموكب قد انفض فماذا بعدُ؟ هل مَنَعَنَا الاحتفالُ المبهر من أن نظل فى ذيل الأمم، تعليمًا وصحة وصناعة وحقوق إنسان؟ وهل أوقف الغلاء والبلاء؟ وهل منع الفساد وأخرجنا من الفشل الذى صنعه المحتفلون؟ لم يحدث شىء من ذلك، بل أضيفت تكاليف الاحتفال إلى قائمة الديون والقروض التى تضمن بقاءنا رهنًا للآخرين لعقود مقبلة ما لم يأت الله بأمر من عنده.
وبينما يرتبون هنا الحِيَلَ للاحتفال بمنجزات مَنْ ماتوا كأنها منجزاتهم، هناك قوافل تترى لمنجزات حقيقية صنعتها الأمم الأخرى؛ ففى الشرق والغرب بلدان حققت الكفاية من الغذاء والدواء والسلاح فى سنوات معدودة، وطوعوا الطبيعة لخدمة الحضارة، فأتوا بما فى باطن الأرض وجوف البحار، ومهدوا الطرق، وشيدوا المدن، وأقاموا المصانع العملاقة، حدث كل هذا بعدما حرروا الإنسان، وحاسبوا الحاكم، وأحيوا فى بلدانهم -عمليًّا- ما نادى به الدين الخاتم منذ قرون.
لا تتوقعوا إنجازًا واحدًا ما لم يتحرر الإنسان، وما لم يُعالج الخوف الذى حقنوه فيه؛ فإن الحضارات لا تُبنى إلا على أكتاف أحرار غير مرتعشين، بل لا تصدقوا أن إنجازًا يتيمًا سيتحقق فى ظل نظام قائم على غير الإنصاف والقسط، والحرية والعدالة، والشفافية والمحاسبة، وما عدا ذلك فهو تدليس، وهو طريقة قديمة فعلها سابقون بنسبة الإنجاز إلى أنفسهم، كذبًا وزورًا، حكى القرآن ذلك فى معرض وعيد الله لأهل الكتاب الذين أنكروا الحق واتبعوا أهواءهم؛ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188].
إن مما يثير الأسى أن يفاخر أحدهم بقوله: «مصر ولدت أولًا ثم وُلد التاريخ»، فهل من يردد هذه العبارة ذهب من قبل إلى أحد المستشفيات فوجد علاجه؟ وهل ذهب إلى قسم شرطة وخرج منه دون أن يُهان ولو كان صاحب حق؟ وهل نال تعليمًا يليق بهذا الفخر؟ وهل وجد وظيفة تحفظ له كرامته وتعفه عن العيش عالة على والديه والأقربين؟ لا أعتقد أن الرد سيكون بالإيجاب؛ لأن هذا وضرباءه يعلمون أنه لو نُظمت احتفالية كبرى لدول العالم وقُسمت قسمين: قسم للكبار وآخر للصغار، أو قسم للأصحاء وآخر للعجزة فسنكون -بلا منافس- فى ذيل القسم الأخير. فلِمَ الفخرُ الكاذب إذًا؟
أضف تعليقك