وائل قنديل
لا تملك إلا الإعجاب بهذه الجدّية والصرامة والدقة التي يتعامل بها نظام عبد الفتاح السيسي، مع ملف الدراما التلفزيونية في شهر رمضان.
جيش كامل من الفنانين والفنيين والخبراء يشتغلون بمنتهى التفاني والمهارة طوال شهور العام، حتى ينتهوا من هذه الإنجازات الدرامية، وميزانيات مفتوحة وإنفاق بلا حدود، يقال إن أكثر من مليار جنيه صرفت على المسلسلات، وتضافر للجهود بين المؤسسة العسكرية والشرطة وشركات الإنتاج الدرامي والإعلام، حتى يتم إنتاج كل هذه الأعمال في المواعيد المقرّرة.
المواطن المصري الواقع تحت الحصار الدرامي، والذي يتعرّض للقصف التلفزيوني العنيف كل ليلة، لا بد أنه يتساءل مع المتسائلين، ويمنّي النفس بأن يتحلّى النظام نفسه بربع هذه الجدّية والصرامة والدّقة والإتقان في ملفاتٍ أخرى تفرض نفسها وتفجر شلالات من القلق والخوف، مثل ملف مياه النيل والسد الإثيوبي مثلًا، ليكون السؤال: ماذا لو أخذوا هذا الملف بالقوة ذاتها التي يخوضون بها معركة المسلسلات؟. وتتفرّع عن هذا السؤال أسئلة أخرى، منها مثلًا ما يتعلق بتغطية وسائل الإعلام المختلفة أخبار المسلسلات وكواليسها وأسرارها، والخناقات بين نجومها، ومعالجة الإعلام ذاته ملف النيل والسد الإثيوبي.
المؤكّد أن معركة المصير والقضية الوجودية لمصر، وطنًا ومواطنًا، هي التهديد بالعطش القادم لا محالة، لو لم تجد إثيوبيا من يردعها وما يجبرها على إعادة النظر في كل هذه الغطرسة وهذا الاستعلاء في إدارة ملف مياه النيل، والمؤكّد أيضًا، للأسف، أن هذه المعركة لا تحظى بواحد على عشرة من الاهتمام المخصّص للإنتاج الدرامي، والمتابعة الإعلامية.
حتى هذا الإنتاج الدرامي الضخم المكثف جاء خلوًا من هذا الموضوع، والذي كان من الممكن أن يكون مادّة درامية جذابة ومفيدة، لو أن هناك من يفكر خارج نطاق الثالوث المقدس (السيسي- الجيش- الشرطة)، والذي يتم حشد كل الجهود والطاقات والموارد لتثبيته من خلال دراما رمضانية، تزيّف التاريخ، وتخترع أساطير وأشياء خارقة، وتسبغ قداسةً على ممارسات إجرامية، وترهب الناس بعنف الضربات التلفزيونية، والأخطر من ذلك كله أن يبدو وكأن الرسالة المقصودة من العمل الرمضاني الرئيسي، مسلسل الاختيار، الذي يتواصل للعام الثاني تواليًا، هي تعميق حالة الانقسام المجتمعي، والاستقطاب العام، وتثبيتهما، والإمعان في تكريس الخصومة بين مكونات الشعب الواحد، ليكون كل الجهد منصبًا على بناء البلاتوهات وديكورات التصوير، في اللحظة التي تبني فيها إثيوبيا السدود.
وأزعم إن ذلك الانقسام اللعين هو المشروع القومي الوحيد لدى عبد الفتاح السيسي منذ اختطف السلطة، وهو المشروع الذي يتم الإنفاق عليه ببذخ، والذي يبدو وكأنه الغاية والوسيلة معًا، والذي يتصوّر أنه بدون الإبقاء عليه مشتعلًا ومستعرًا، فلن يتسنّى له الاستمرار في الحكم والهيمنة.
ما نحن بصدده ليس دراما تلفزيونية يقدّمها مبدعون أصحاب خيال، بل هو أقرب ما يكون إلى معالجة درامية لما تسمعه من السيسي في مؤتمراته وحفلاته، لتجد نفسك، في نهاية المطاف، بصدد عمل هو نوع من الدعاية السياسية الفجّة، حتى لو تم تقديمها في قالب تمثيلي مبهر، من خلال مجموعة من النجوم الموهوبين والحبكة في السيناريو والإخراج والتصوير، ومع ذلك تظل مسكونًا بهاجس أنه في كل هذا الزحام يبقى السيسي هو صاحب القصة والسيناريو والحوار والإخراج والإنتاج.
غير أن المثير للدهشة أكثر أن عمر عبد الفتاح السيسي في الحكم لا يتجاوز ثماني سنوات. ومع ذلك، يتم التأريخ لهذه الفترة الكارثية دراميًا في ذروة تفاعلاتها، وهذا أمر أزعم أنه غير مسبوق في تاريخ الدراما، أن يجرى التعاطي مع اللحظة الراهنة باعتبارها تاريخًا اكتمل، ولابد من توثيقه بالمسلسل وبالفيلم. والدلالة الأبرز هنا أن هذه السلطة تسلك بعقلية وسيكولوجية المجرم الذي يود أن يشعل النار في الذاكرة المعاصرة، ويخترع ذاكرة جديدة يفرضها فرضًا على الذين عاشوا هذه المرحلة، من دون أن يكون مسموحًا لهم بالانتقاد أو التصويب أو التكذيب، أو أي شكل من أشكال الممانعة لما يراد لهم ابتلاعه من رواياتٍ كذوب لأحداث لا تزال تتحرك أمامهم.
والنموذج الأوضح هنا مذبحة اعتصام رابعة العدوية التي عايشها المصريون، بتفاصيلها الدقيقة، ومن لم يشاهد بعينيه سمع بأذنيه ممن يعرفهم ويعرفونه، ورأى الدم حارًا وساخنًا حوله في كل مكان، فهل يستطيع مسلسل مهما توفرت له عناصر الصنعة الدرامية أن يجعل المصريين يرون الدماء ماءً، أو يرون القتلة فرسانًا؟
أضف تعليقك