قال عبد الفتاح السيسي للصحيفة الألمانية: "لا يمكن خلق الوظائف إلا إذا ساعدتنا أوروبا في بناء الصناعات، حتى لو كانت تنافس صناعاتها". وإنه "منذ سبتمبر 2016، استطعنا منع المهاجرين غير الشرعيين من اقتحام أوروبا من مصر، حيث لدينا ستة ملايين لاجئ، بينهم 500 ألف لاجئ من سورية، بالإضافة إلى عدد كبير من العراق واليمن والسودان وليبيا وإثيوبيا ودول أفريقية أخرى، ويرى الكثير منهم مصر دولة عبور فقط، لكننا لن نسمح لهم بالمضي قدمًا، فمن المهم بالنسبة لنا ألا يتأثر أمن أوروبا نتيجة لذلك". ثم عقّب "لا يمكننا وقف هذه الهجرة غير الشرعية عبر مصر إلا بتهيئة المناخ المناسب للأمن والاستقرار، ولا نطالب أوروبا بأي شيء في المقابل، ونحن لا نفكر حتى في استخدامه للابتزاز السياسي أو الاقتصادي".
إذن باختصار، الرجل يريد من أوروبا بناء صناعات في مصر، لأن بيده قنبلة موقوتة اسمها الهجرة غير الشرعية، لكنه يمنع انفجارها في وجه أوروبا.. إذا لم يكن ذلك هو التلخيص النموذجي لمفهوم الابتزاز السياسي والاقتصادي، فماذا يكون الابتزاز إذن؟
على أن ذلك ليس أهم ولا أبرز ما جادت به قريحة السيسي العبقرية في حواره مع صحيفة دي فيلت الألمانية، ونشرت ترجمته في عديد الصحف المصرية، فالرجل منذ استولى على السلطة وهو يقدّم نفسه للأوروبيين باعتباره قائد خفر سواحل جنوب المتوسط، الذي أرسلته العناية الإلهية لحماية أوروبا من خطر اللاجئين المهاجرين غير الشرعيين، ومن إرهاب المسلمين الذين يتسللون إلى المجتمعات الأوروبية، فلا جديد في التلويح بورقة الهجرة غير الشرعية.
جديد السيسي، هذه المرة، كلامه عن رفض الانقلابات العسكرية، على نحو تتخيّل معه أن المتكلم هو الأب الروحي لجميع المناضلين من أجل الحريات السياسية والشخصية وحريات التعبير، حتى تكاد تظن أنه صاحب شعار "يسقط حكم العسكر" أو رفيق نضال تشي جيفارا أو شريك مارتن لوثر كينغ في الحلم بدولة مدنية، من غير أية شائبة عسكرية. يقول السيسي "النقد مسموح به للجميع، لكن يجب أن يكون نقدا بناء وليس تحريضا، ويؤكد "نريد دولة دستورية، لكن التحريض على الانقلاب أمر خطير وغير مقبول".
من المهم الإشارة، قبل مناقشة هذا الكلام الفخيم، إلى أن المتكلم هو اللواء عبد الفتاح السيسي مدير المخابرات العسكرية في العام 2011 ثم الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع عام 2013 ثم المشير الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد قيادته انقلابًا على حكم أول رئيس مدني منتخب انتخابًا حرًا سليمًا في تاريخ الدولة المصرية.
قد يكون من المهم أيضًا لفت الانتباه إلى أن الجنرال السيسي هو صاحب العبارة الشهيرة، التي برّر بها تدخل الجيش، الذي هو قائده العام، لإطاحة الرئيس المنتخب "اللي أنا شفته إن النظام السابق أخذ الديمقراطية سلم يصعد به للسلطة، طيب زق السلم وقعه، لا ده خد السلم معاه فوق".
الآن، لا يمكن أن أجد تفسيرًا لتحذير الجنرال الذي يحكم مصر بانقلاب من خطر وقوع انقلاب سوى أن "السيسي استخدم الانقلاب سلمًا صعد به للسلطة ثم احتفظ بالسلم فوق العرش المسروق".
لا أظن أن السيسي ينسى أنه وزير دفاع نفذ انقلابًا على رئيس جمهورية منتخب، ثم جلس مكانه، ثم وضعه في السجن حتى الموت، قتلًا بالحرمان من العلاج، بعد أن أقسم أمام الجميع على أنه لا يفكّر في السلطة، وأن الجيش غير راغب في حكم البلاد، هو لا ينسى أيًا من ذلك، كل ما في الأمر أنه يتحدّث وهو مدرك تمامًا أن الساحة قد أخليت من أي إعلام يمكن أن يفند أكاذيبه وادعاءاته، فإعلام الداخل يدار من غرفته، وإعلام الخارج يختنق بالغاز، بعد أن تم وضع لاصقٍ ثقيلٍ على فم معظمه، ومن ثم لن يراجعه أحد، أو يعقب على مفترياته، فلماذا لا ينتهز الفرصة ويتقمص شخصية الثائر الملهم المجدد الذي قاد الجماهير نحو الدولة الدستورية المدنية التي يخشى عليها من الانقلاب؟
يقول للصحافية التي تحاوره "كيف لي أن أجلس هنا وأترك الناس في بؤس؟ هذا ما نفعله الآن وسنفعله.. لكن مصر لديها مشكلات منذ 70 عامًا من دون أن يكلف أحد عناء إيجاد حل لها.. والآن علي أن أجد الحلول في أقصر وقت ممكن حتى لا يعاني الناس أكثر".
هكذا، باختصار، لم تكن هناك مصر قبل ظهور الزعيم الأيقونة، الذي جاء لينتشلها من تحت ركام سبعين عامًا، ويمنحها الحرية والمدنية والمساواة، مثله مثل مارتن لوثر كينغ، حين قال، في خطابه الشهير "أبعد من فيتنام" أبريل/ نيسان 1967"، "يجب أن نبدأ بسرعة في إجراء تحوّل لمجتمعنا من مجتمع ذي توجهات مادية إلى مجتمع ذي توجهات إنسانية، فعندما تكون الآلات وأجهزة الكمبيوتر والدوافع الربحية وحقوق الأملاك العقارية أكثر أهمية من البشر، يستحيل آنذاك قهر التوائم الثلاثة العمالقة: العنصرية والمادية المتطرفة والنزعة العسكرية".
في نهاية المقابلة، يعبّر السيسي عن سعادته بأن محاورته امرأة، فيقول لها "لدينا 162 امرأة في البرلمان المصري، ولدينا أيضًا ثماني وزيرات في مجالات رئيسية"، لكنه بالطبع لم يأت على ذكر مئات النساء مسجوناتٍ ومعتقلاتٍ داخل زنازينه، يتعرّضن لكل أنواع الانتهاكات، ولا أدري هل وجدت الصحافية الألمانية وقتًا لتسأله عن هدى عبد المنعم وليلى سويف وسناء سيف وعلا القرضاوي وماهينور المصري وعائشة الشاطر وإسراء عبد الفتاح، على سبيل المثال؟
أضف تعليقك