• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
May 01 21 at 02:31 PM

هذه الأمة الإسلامية خرجت من بين دفتي كتاب, فمن «رحم القرآن الكريم ولدت هذه الأمة , عندما صنعت سوره وآياته, وصاغت وصبغت «الجوامع الخمسة» التي بلورتها, ووحدتها, وجعلتها أمة متميزة من دون الناس. فمن القرآن الكريم كامن «جامع العقيدة» الواحدة والموحدة للأمة.

جامع الشريعة

وفي القرآن الكريم جاء «جامع الشريعة» الواحدة, الجامعية للأمة في الأصول والمبادئ والقواعد والقيم, وفلسفة التشريع وروح القانون, والحاكمة لاختلاف وتنوع مذاهبها في الفروع والجزئيات والمتغيرات:

{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون } (الجاثية: 18).

وفي آيات القرآن الكريم, جاء الحديث عن «وحدة الأمة», فريضة جامعة لتنوعها في الشعوب والقبائل والألوان واللغات:

{ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } (الأنبياء: 92)

وفي القرآن الكريم شاعت القيم الثوابت, التي صبغت «حضارة الأمة» – المدنية – بصبغة دين الإسلام, فاصطبغ «النسبي» بـ «المطلق» لأول مرة في تاريخ الحضارات:

{ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } (البقرة: 138).

ولهذه الجوامع الأربعة في العقيدة والشريعة والأمة والحضارة, توحدت «دار الإسلام», فعرف الوطن الإسلامي «الأممية» الجامعة للأقاليم والولايات والأقطار, التي تتمايز في إطار وحدة دار الإسلام, فهي «المحيط الجامع الذي يحتضن «جزر» الشعوب والقبائل والأجناس واللغات والقوميات, جعلا إلهيا, وإرادة ربانية, عبرت عنها آيات القرآن الكريم.

عيد الميلاد

ولأن هذا القرآن الكريم قد بدأ نزوله في شهر رمضان, الشهر الذي كان يتحنث – يتعبد – فيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, قبل البعثة في غار حراء, مستخلصا نفسه استخلاصا كاملا من وثنية الجاهلية, وجاهلية وثنيتها, وباحثا عن الدين الحق, ومتخذا لذلك بقايا الحنيفية من ملة إبراهيم الخليل عليه السلام سبيلا.

ولأن لحظة انبثاق النور القرآني قد كانت في ليلة القدر, إحدى الليالي الوتر في العشر الأواخر من شهر رمضان, سنة 13 ق. هـ , سنة 610 م, فلقد غدت هذه الليلة ليلة ميلاد النور القرآني, خيرا من ألف شهر:

{ إنا أنزلناه في ليلة القدر, وما أدراك ما ليلة القدر, ليلة القدر خير من ألف شهر, تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر, سلم هي حتى مطلع الفجر } (القدر من 1 – 5) .

فلقد غدا هذا الشهر الذي شرف بهذه الليلة, وبلحظة انبثاق النور القرآني فيها, غدا ميقات واحدة من الفرائض الإسلامية – فريضة الصوم – رابع الأركان الخمسة للإسلام, فإقامة هذا الركن وأداء هذه الفريضة الإسلامية, في هذا الشهر العظيم, هو الاحتفال الإسلامي بنزول القرآن الكريم, عيد ميلاد أمة الإسلام, ولحظة التأسيس للدين القيم.

ومع أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا, منها أربعة حرم, هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم:

{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } (التوبة: 36)

ومع أن شهر رمضان ليس من هذه الأشهر الحرم فلقدح فاق في الفضل هذه الأشهر الفضيلة, وذلك بسبب نزول القرآن فيه, فالأشهر الحرم هدنة سلام, لا يجوز فيها القتال, والظرف الزماني لانبثاق نبأ السماء العظيم – القرآن الكريم – الذي ولدت من بين دفتيه

– للأمة الوارثة لجميع مواريث النبوات والرسالات والمؤتمنة على دين الله الواحد في مرحلة اكتماله بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولهذه الحكمة وإعرابا عن هذا التكريم, لهذا الشهر المعظم – شهر رمضان – كان انفراده واختصاصه بالذكر دون الشهور الأخرى في القرآن الكريم, فلم يذكر من أسماء الشهور في القرآن اسم سواه.

ولم يكن اختصاص رمضان بالذكر في القرآن الكريم, لأنه ميقات فريضة الصيام فالحج – وهو كالصوم واحد من أركان الإسلام – أشهر معلومات, هي شوال وذو القعدة وذو الحجة:

{ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } (البقرة: 197)

ومع ذلك لم يذكر اسم أي منها في القرآن الكريم, رغم أن فيها شهرين من الأشهر الحرم.

وكذلك كان الحال مع شهر ربيع الأول, الذي حدثت فيه الهجرة النبوية, من مكة إلى المدينة, فتم فيه إنقاذ الدعوة من الحصار والتأسيس للدولة والفتح في الدين, ومع ذلك لم يذكر هذا الشهر في القرآن كما لم يجعله الإٍلام ميقات الصيام, كما كان الحال في الشريعة الموسوية عندما كان الصوم احتفاء بنجاة موسى عليه السلام من فرعون.

هكذا لا يترك القرآن الكريم الإجابة عن سؤال الباحث عن حكمة هذا التوقيت, وذلك الاختصاص لمجرد الاجتهاد والاستنتاج, فآياته البينات قد تحدثت عن «لحظة الميلاد» للأمة الإسلامية الخاتمة, تلك التي تجسدت في لحظة «الظهور للدين» الذي ميز هذه الأمة, وجعل من شريعتها الطور الرسالي الخاتم لرسالات الدين الإلهي الواحد, والكمال والاستكمال لمكارم الأخلاق.

ولقد كانت بداية هذه اللحظة هي نزول «الروح الأمين» على «الصادق الأمين», بأولى آيات القرآن الكريم, لحظة «مطلع الفجر», في ليلة من الليالي الوتر, في العشر الأواخر من رمضان, في غار حراء.

في هذه اللحظة التي أضاءت فيها الأرض بنداء السماء:

{ اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم } (العلق: 1 – 5).

بدأ نزول القرآن في ليلة القدر, وهي لحظة «مطلع الفجر», الذي هو مولد النهار, وفيها نزل الكتاب, الذي ولدت منه الأمة, عندما خرجت عقيدتها وشريعتها وحضارتها ووحدتها في الأمة والدار, من بين دفتي هذا الكتاب الكريم.

ولأن هذا «الميلاد» كان ي شهر رمضان, فلقد كان تكريمه وصومه, دون غيره من الشهور, الاحتفال الإسلامي بهذا العيد, لهذا الميلاد.

ولأن هذا الميلاد كان ميلاد الوحي المؤسس للأمة, فلقد شاء الله أن تكون فريضة الاحتفال به – فريضة الصوم – هي مدرسة بناء الإرادة الإسلامية, المجددة أبدا لفتوة الأمة, كي تستعيد دائما عافية الميلاد الجديد, وصحة الاجتهاد والتجديد, الكاشف عن فعالية كتاب التأسيس, فقال سبحانه وتعالى وهو يشعر لهذه الفريضة:

{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } (البقرة: 185).

وهكذا نجد أنفسنا أمام الحكمة التي جعلت صيامنا في رمضان وليس في شهر من الأشهر الحرم, وليس أيضا في ذكرى نجاة الإسلام ورسوله وأمته, بالهجرة من الحصار والاقتلاع، أمام الحكمة التي جعلت صيامنا إحياء لذكرى نزول القرآن, الذي مثل (الرحم) الذي ولدت منه هذه الأمة, عندما خرجت مقوماتها وثوابتها والروح السارية في حضارتها والصغبة المميزة لعمرانها, عندما خرج كل ذلك من بين دفتي القرآن الكريم, ومن سور وآيات هذا النبأ العظيم.

فكيف يكون الاحتفال؟

وإذا كان احتفال الناس أفرادا وأسرا وشعوبا وأمما بالأعياد والمناسبات لابد وان تصطبغ مظاهره وتعكس وقائعه معاني ودلالات الحدث الذي به يحتفلون, ولذكراه يحيون, إن كان انتصارا عسكريا, فإن مظاهر القوة ومعالمها تطبع وقائع الاحتفال.

وإن كان استقلالا عن الاستعمار, أو تحريرا للثروات أو استرجاعا للأرض.. إلخ, صبغت معاني الذكرى احتفالات الذين يتذكرون ويحتفلون, فإن احتفال المسلمين عندما يصومون شهر رمضان, بذكرى «اللحظة» التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب منه, من هذا الاحتفال ان يصطبغ بصبغة ذلك الحدث العظيم, نزول القرآن, الذي كان «الرحم» الذي ولدت منه المقومات التي صنعت أمة الإسلام, ومثلت الروح السارية, والضامنة لتواصلها الحضاري على مر الدهور.

إن تأمل هذه المعاني, وتدبر هذه الحقائق, سيضع يدنا على حجم «الخلل والقصور» اللذين أصابا ويصيبان «معاني ومعالم» احتفالنا في رمضان بذكرى نعمة نزول النبأ العظيم.

ليس فقط في تحول شهر الصوم إلى شهر للكسل وتدني الإنتاج بينما هو في حقيقته «مدرسة تربية الإرادة» على الفتوة التي تجعل منه التجديد للطاقات والملكات والقدرات التي تعين الأمة على قهر المخاطر والتحديات, وتنمية معالم الابتكار والإبداع.

وليس فقط لوقوف الأكثرين عند الطرب لسماع القرآن, واكتفاء الكثيرين بمجرد تلاوته, بينما لا يتدبره إلا الأقلون, فلا طرب السماع ولا مجرد التلاوة, بل ولا حتى الوقوف عند التدبر للمعاني بكاف في الاحتفال الذي يحيى المعنى الحقيقي لهذا العيد الذي ولدت فيه أمة الإسلام.

لقد غدت أمانينا في التعامل مع القرآن الكريم أن نكثر من حافظيه.. ننفق في ذلك الأموال ونعقد له الاحتفالات ونزوع الجوائز على الحفاظ, ورغم ما في ذلك من خير كثير يربطنا بلغة القرآن, ويقوم ألسنتنا بأسلوبه المعجز, وبيانه الأخاذ, إلا أن الوقوف عند الحفظ لم يكن هو المقصد من وراء الوحي بهذا النبأ العظيم, حتى إن المرء ليدهش من فطر ما وصلنا إليه, عندما نعلم أن جيل الصحابة الفريد, الذي شهد الوحي, وغير به وجه الدنيا, ومجرى التاريخ, لم يكن فيه من حفاظ القرآن, إلا عدد قليل لقد كانوا فقهاء للقرآن, لا مجرد حفاظ له, وكانوا عاملين به, ومجسدين لمقاصده, لا مجرد مرتلين لآياته.

فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات, لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن أما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فهو القائل تعبيرا عن نوع علاقة الصحابة بالقرآن, ونبوءة بالحال الذي صرنا إليه نحن: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, في صدر هذه الأمة, لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها, ورزقوا العمل بالقرآن, وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن منهم الصبي والأعمى, ولا يرزقون العلم به»[2].

ففي عصر الازدهار الذ يغير فيه الجيل الفريد من الصحابة, وجه الدنيا ومجرى التاريخ بالقرآن, كانت الغلبة لفهم القرآن, وفقه مقاصده والعمل به, وليس للحفظ والتكرار, بينما ارتبط عصر تراجعنا الحضاري بغلبة منهاج الحفظ, وكثرة أعداد الحفاظ, والمفاخرة بكثرة المحفوظ, وما زلنا مع شديد الأسف, نقف من القرآن عند الحفظ والتكرار, والاحتفال بالحفظ والحافظين, رغم أن المعاجم والتقنيات الحديثة قد فاقت في الحفظ ملكات الحفاظ.

إن نزول القرآن الكريم إنما مثل لحظة الميلاد لأمة الإسلام, لأنه مثل النور الذي خرجت إليه الأمة, من ظلمات الجاهلية, ومثل الهدى الذي نعمت به بعد حيرة الضلالات, وفي كلمة وحيدة جامعة, فلقد مثل القرآن الكريم ينبوع الإحياء الإسلامي, الصالح دائما وأبدا لطى صفحات الجمود والتقليد والموات, بما يقدم من سبل للاجتهاد والتجديد والإبداع.

فالإحياء في كل ميادين العمران عمران النفس الإنسانية بما يهذبها ويرتقي بملكاتها, وعمران الواقع المادي, بما يحسنه ويجمله, من ألوان المدنية, هذا الإحياء الإسلامي, هو أخص المصطلحات المعبرة عن رسالة هذا «الينبوع» الذي نصوم رمضان احتفالا بذكرى لحظة نزوله على قلب رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم إذ يقول:

{ يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } (الأنفال: 24).

فنحن إذ نصوم رمضان إنما نحتفل بذكرى اللحظة القدسية التي بدأ فيها نزول النبأ العظيم, ذلك الينبوع الإلهي الذي مثل «الرحم» الذي ولدت منه الأمة الخاتمة, ومن بين دفتيه خرجت المقومات الثوابت للرسالة العالمية الخاتمة في العقيدة والشريعة والقيم التي ميزت الحضارة بالروح الخالدة, رغم تطورها عبر الزمان والمكان, كما وحدت الأمة مع التنوع في القبائل والشعوب والأقوام, وكذلك وحدت دار الإسلام مع التمايز في خصوصيات الأقاليم والأوطان.

وإذا كانت مصداقية «رسالة» أي احتفال بذكرى لحظة الميلاد هي في مدى النجاح الذي يحققه الاحتفال في حضور المعنى والمغزى, إلى واقع الذين يحتفلون, فهل ننجح في مرضن, في استعادة روح «الإحياء» الإسلامي الذي مثله القرآن العظيم عندما أخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور؟

لنحاول ولنجتهد, فلكل مجتهد نصيب.

لقد من الله سبحانه وتعالى علينا, بحفظ هذا الذكر الحكيم:

{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر: 9)

لكنه افترض علينا إقامة هذا الدين, لنجدد بإقامته الأمانة التي حلمناها عندما سعدنا بنعمة التدين بهذا الدين العظيم.

*افتتاحية الدكتور محمد عمارة لمجلة الأزهر في شهر رمضان ١٤٣٥هجرية

أضف تعليقك