بقلم.. وائل قنديل
أنت تقاوم حين تحكي لأولادك وأحفادك الحكاية على وجهها الصحيح، "حكاية فلسطين" التي ابتلعها الصمت الرسمي العربي، منذ أن صار لدى دول عربية كثيرة حكام على درجة "سفير" للكيان الصهيوني.
أنت أيضًا مقاوم عندما تحتفي بعمليات بطولية للمواطنين الفلسطينيين في مواجهة احتلال عسكري همجي، ومستوطنين أكثر همجية، وتوحشًا في ممارسة كل أنواع السلب والنهب والسرقة العلنية للبيوت والمساكن.
تقاوم كذلك، حين تجد مساحةً في عقلك وقلبك لأخبار صمود سكان حي الشيخ جرّاح، الذين يتصدّون لمحاولة اقتلاعهم من مساكنهم وأرضهم، ويخوضون معركة وجود بمواجهة مصفحات الاحتلال وآلياته، وسط وفي ظلّ صمت عربي رسمي متواطئ ومشارك بالجريمة، وتحت القصف العنيف لدراما تزييف التاريخ وسحق القيم وهدم كل ما هو أصيل ومستقر في بنية الإنسان العربي الروحية والأخلاقية.
كم برقية عزاء وكم تصريحًا بالمواساة صدر من عواصم العرب بعد حادث مصرع عشرات من المحتلين الصهاينة في تدافع في أثناء احتفالهم فوق الأراضي العربية المغتصبة بالجليل شمالي فلسطين المحتلة؟ لم يتخلف أحد من "عرب إسرائيل" من الحكام المطبّعين عن العزاء والنحيب ومشاطرة المحتل الصهيوني الأحزان. وكالعادة في مثل هذه المناسبات لا تمر من دون أن يخرج أحد مشايخ السلاطين ليحدثك بلسان الناطق باسم جيش الاحتلال عن نهي الإسلام عن الشماتة والفرح بموت العدو، ولن تعدم صحيفة مصرية، أو إماراتية، تسميه "ناطقًا باسم جيش الدفاع"، التزاما بالتوصيف الصهيوني المعتمد.
يبتزّك الصهيوني، والمتصهين، حين يردّدون على مسامعك برقاعة أن دينك ينهاك عن الشماتة في هلاك أتباع الديانات الأخرى، وتأخذ الرّقاعة شكل النطاعة، حين يكلمك الصهيوني والمتصهين عن أخلاقيات صيام رمضان، ويحاولون تزييف عناصر الحكاية بتحويل الأمر إلى شماتة مسلمين في يهود، وهنا منتهى الوقاحة، إذ أن المشكلة ليست في كونهم يهودًا، بل أصل الحكاية أنهم مستعمرون صهاينة جاءوا من البلاد الغريبة لاختطاف فلسطين من سكانها، ثم طردهم منها، ومن يقاومهم يقتل ويشرد ويصير متهمًا بالإرهاب.
ولذلك فأنت مقاوم حين ترفض الاستسلام لهذا الابتزاز، وحين تصمد أمام عواصف التحريف والتجريف للوعي وللإحساس الفطري السليم، وتتعامل مع المسألة بوضوحها وبساطتها: مجموعة من الصهاينة احتشدوا وتوجهوا لسرقة منزلك: هل هناك تسمية أخرى لهم سوى لصوص؟
هؤلاء الصهاينة طردوك من منزلك وقتلوا كل من قاوم استيلاءهم عليه: هل يمكن وصفهم بكلمة غير القتلة؟ ثم دعوا صهاينة كثيرين آخرين لإقامة حفلة فوق سطح البيت: أليست تلك غطرسة شديدة التسفل؟ ثم لأن أعداد اللصوص فوق البيت كانت غفيرة، فقد سقط بهم سقف بيتك جميعا فانكسرت رقابهم وأضلعهم وماتوا: هل ثمّة وصف للحادث سوى أن القدر رحيم بأصحاب البيت وأصحاب الأرض الذين تخلى عنهم العالم؟ ثم بعد ذلك يأتي أحدهم ويطلب منك أن تعزيهم وتواسيهم وتعتذر لهم: هل هناك اسم لذلك غير الصفاقة والخسّة؟
وفي مقابل ذلك، كم خبرًا قرأت وكم تعليقًا تلفزيونيًا شاهدت بخصوص مأساة حي الشيخ جرّاح في الإعلام العربي؟ كم تصريحًا صدر من هذه العاصمة العربية أو تلك مندّدًا بهجمة سلطات الاحتلال على الحي الواقع في القدس المحتلة لاقتلاع سكانه الفلسطينيين وتهجيرهم بالقوة العسكرية؟ .. لم يصرح أحد ولم يندّد أحد تقريبًا!
تعود مأساة حي الشيخ جرّاح بالقدس المحتلة إلى خمسينيات القرن الماضي، حين انتقلت عائلات فلسطينية كثيرة للسكن على أرض الحي، بموجب اتفاقٍ موقع بين الأردن ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) مقابل التخلي عن حقوقهم كلاجئين (داخل وطنهم) بعد قيام الاحتلال بطردهم وتشريدهم.
في هذه الأثناء، تحاصر مجموعات المستوطنين، مدعومة ومحمية بالجنود والمعدات العسكرية الصهيونية، الحي استعدادًا لاقتحام منازل السكان الفلسطينيين، والاستيلاء عليها، بعد أن أمهلت إحدى محاكم الاحتلال السكان حتى الغد (الخميس) للخروج من مساكنهم إلى المجهول.
قضية بهذه الملابسات والتفاصيل، كان من الطبيعي أن تكون موضوعًا يشغل السادة الأعضاء في تلك المقبرة الفارهة المطلة على ميدان التحرير بالقاهرة، والمعروفة باسم "جامعة الدول العربية"، فتتم الدعوة، مثلًا، لاجتماع على مستوى المندوبين الدائمين، أو يتهور أحدهم ويدعو وزراء خارجية العرب للتباحث في إصدار بيان تنديد بممارسات سلطات الاحتلال، أو ممارسة أي شكل من أشكال الضغط لإيقاف هذه الجريمة، لكن شيئًا من ذلك لم يتم، بالطبع، فقط صدر بيان عن الأمانة العامة يقول إن "ما يجري في مدينة القدس وتحديدا بحي الشيخ جراح، ما هو إلا جريمة حرب وتطهير عرقي خطير في سلسلة الجرائم المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني منذ عقود". ومضى البيان: "وحذّرت الأمانة العامة من دعوات وتحريض عصابات المستوطنين للتجمهر في البلدة القديمة بالقدس المحتلة لمهاجمة المقدسيين والمصلين والاعتداء عليهم في هذا الشهر الفضيل، استمرارا لاستهداف حرمة المسجد الأقصى المبارك".
كلام جميل وتوصيف دقيق للوضع، لكنه يظل كلامًا في الهواء من دون فعل أو إجراء حقيقي يطالب أو حتى يناشد الدول الأعضاء في الجامعة الانعقاد من أجل البحث في اتخاذ خطوات عملية، قد تكبح الهجوم الصهيوني على الحي.
وسط كل هذا البؤس والعجز الرسميين، تأتيك صور امرأة فلسطينية تمد مائدة إفطار في ساحات الأقصى، متحدّية بندقية العدو المحتل، أو يصلك خبر فدائي فلسطيني بطل ينفذ عملية ناجحة ضد جنود الاحتلال، بالتزامن مع استشهاد أم فلسطينية برصاص العسكري الصهيوني في عرض الطريق، وصمود نساء وأطفال أمام مستوطنين جاؤوا لإخراجهم من مساكنهم واحتلالها، فتدرك أن أقوى سلاح بيد هذه الأمة هو الاحتفاظ بالحكاية على وجهها الصحيح، وتوريثها من جيل إلى جيل، حتى يأتي الجيل الذي يتمرد على كل هذا العجز ويستعيد الحق من مغتصبيه.
أضف تعليقك