كان يوم الفرقان يوماً مشهوداً، ويوماً عظيماً، وكان يوماً فريداً، ويوماً مفصلياً في تاريخ البشرية جمعاء، وليس في تاريخ المسلمين، أو تاريخ العرب فحسب، لأنه لم يأت للعرب لوحدهم، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث من بين ظهرانيهم، ونزل القرآن بلغتهم، وإنما جاء للبشرية جميعاً.
لقد كان مجيء الإسلام؛ نقطة فاصلة في تاريخ البشرية جمعاء! ونقطة تحول كبير في الأفكار، والعقول، والعقائد، والعادات، والتقاليد. ونقطة تغيير جذري في المفاهيم، والرؤى. ونقطة تبديل لكل ما تعارف عليه البشر، طوال عقود وأحقاب من الخضوع، والخنوع، والاستسلام للسادة، والأشراف، والأمراء، وعبادتهم فيما يأمرون، وينهون دون أي سؤال لما يفعلون.
جاء الإسلام ليحدث زلزالاً عالمياً، قوياً في نفوس البشر، ويفجر بركاناً من الغضب، ويقذف بالحمم واللهب كالقصر، كأنه جِمالة صفر! على الأرض جميعها – وليس في الجزيرة العربية لوحدها – ليدك ويحرق، ويحطم أنظمة الشرك كلها، والعبودية لغير الله وحده.
جاء الإسلام ليعلن الانقلاب العالمي الأول على الأنظمة البشرية، التي كانت تستعبد الناس، وتسترقهم، وتتحكم بمصائرهم، وشؤون حياتهم من دون خالقهم!
وجاء الإسلام ليعلن الثورة الجامحة العارمة، المزلزلة لكل أشكال العبودية لغير الله تعالى، وليقود الناس جميعاً، إلى طريق السلام والأمان، وطريق الحرية الشاملة الكاملة، ولتحرير الإنسان – جنس الإنسان – من الخضوع، والاستكانة، والتذلل، والانكسار لإنسان آخر مثله.
فأصدر البلاغ رقم واحد! بإعلان اليوم العالمي لميلاد الإنسان الحر، وخروجه من شرنقة الأسر، والسجن للعصبية القبيلة، والعشيرة، والقومية.
ما جاء الإسلام لإنقاذ العرب، أو الفرس، أو الروم لوحدهم، مما كانوا يعانونه من ظلم، واضطهاد، وفوضى، وتيه، وضياع، واستعباد، واستبداد! وإنما جاء لمصلحة البشرية جمعاء، حسب تقرير الله العزيز الحكيم ﴿ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴾ [الأنبياء ١٠٧].
وفي هذا السياق يقول سيد الشهداء سيد قطب رحمه الله في مقدمة سورة الأنفال صفحة 8:
( إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو "الإنسان" . . نوع "الإنسان" . . ومجاله هو "الأرض" . . كل الأرض . إن الله – سبحانه – ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو (رب العالمين). . وهذا الدين يريد أن يرد(العالمين)إلى ربهم ; وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى – في نظر الإسلام – هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر . . وهذه هي "العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله . وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين ).
جاء الإسلام ليعلن تحرير الإنسان – جنس الإنسان أياً كان – من الرق، والعبودية للعبيد، ومن الآلهة المزيفة – سواء كانت بشراً أو جناً أو، أصناماً أو تماثيلاَ – ويقرر قراراً قاطعاً حاسماً، أن البشر جميعهم عبيد الله، وعليهم أن يتلقوا التعليمات فيما يخص إدارة شؤون الحياة بكافة جوانبها – السياسية، والقضائية، والعسكرية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية، والتجارية – من مصدر واحد فقط لا غير، من مصدر الخالق العليم الخبير البصير بعباده.
فهو الوحيد والأوحد! الذي يعلم طبيعة البشر، وما تتطلبه هذه الطبيعة، وما تريده من أمور شتى، كي تحافظ على وجودها، وكينونتها دون أي خلل، أو اضطراب.
فهو الصانع المبدع! لصناعة الإنسان، وهو أعرف بصنعته، من أي كائن آخر. وهذه حقيقة كونية، وعلمية، وعملية، سبق وأن بيناها بالتفصيل، والأدلة، والبراهين في مقالنا السابق ( أليس الصانع أعرف بصنعته ممن سواه؟!).
وأن يكون جميع البشر – بما فيهم الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، الملك والرعية – كلهم على السواء، يتلقون نفس التعليمات، من مصدر واحد علوي، لا يعتريه الهوى، ولا النسيان، ولا القصور، ولا الجهل، ولا يقبل التمييز بين بني البشر، ولا يرضى الانحياز لفئة دون الأخرى.
فكل البشر لديه سواء، يريد لهم السعادة، والطمأنينة، والخير، والأمن، والسلام، وأن يطبقون تلك التعليمات في حياتهم العملية، دون أي امتياز لأي واحد منهم على الآخر، ولا أن يكون أحد عبداً للآخر، وحتى لو كان رئيس الدولة أو السلطان.
فهذا الرئيس أو الملك! – في نظر الإسلام – ما هو إلا عبد، وخادم لله، يقوم بتنفيذ أوامر وتعليمات الملك الأعلى، ويأتمر بأمره، وليس من حقه أن يُشرع أي نظام، ولا أن يُصدر أي قانون لعبيد مثله!
وإلا حينئذ! يصبح إلهاً آخر، يشارك الله في حكمه. وفي الوقت نفسه! أي عبد آخر موجود في الدولة، يقوم بطاعة الملك فيما يُشرع من دون الله، فإنما هو يعبده من دون الله، ويخرج كلا الطائع والمطيع من دائرة الإسلام.
فالطاعة أو الاتباع في قضايا الحكم! هي العبادة. وهذا التعريف ليس من بنات أفكار العبيد، وإنما هو قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ . يقول القرطبي: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ الْعَهْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، أَيْ أَلَمْ أُوصِكُمْ وَأُبَلِّغْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ. "أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" أَيْ لَا تُطِيعُوهُ فِي مَعْصِيَتِي).
وقد جاء في ظلال القرآن في مقدمة الأنفال صفحة 8 ما يلي:
( ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن "الاتباع" في الشريعة والحكم هو "العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى "مشركين" مخالفين لما أمروا به من "عبادة " الله وحده . . أخرج الترمذي – بإسناده – عن عدى بن حاتم – رضي الله عنه – أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام . وكان قد تنصر في الجاهلية . فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام. وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث الناس بقدومه . فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه [ أي عدي ] صليب من فضة وهو [ أي ] النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ). . قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم . فقال:" بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال , وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم " . .).
( وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه , نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين , وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض . . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه , ويعلن تحرير "الإنسان" , في "الأرض" من العبودية لغير الله . .).
وهكذا كان يوم الفرقان! الذي فرق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العبودية لله والعبودية للعبيد، والأوثان، والأصنام، والتماثيل! فضرب بيد من حديد على عتاة المشركين، فقطع رؤوسهم، وأخرس ألسنتهم التي كانت تدعو جهاراً ونهاراً بالكفر بالله.
وهكذا يفعل الإسلام دائماً وأبداً! بعزة وقوة، فيجندل رؤوس الكفر، ويقمع شرهم، بحد السيف، وليس بلغة البيان، والتبليغ، والخطب الرنانة، والشعارات المرفرفة، والدعايات الإعلامية، والندوات الفكرية، والمحاضرات التنظيرية، ولا بحلقات الذكر مثل: الدراويش والصوفية والمولوية!!!
فهذه الوسائل التبليغية، التنظيرية، البيانية! لا تردع المجرمين عن غيهم، ولا تزيل الطواغيت المتألهين المستعبدين البشر، ولا تقضي على عبودية البشر للبشر!
ومثل هذه الوسائل أيضاً! المشاركة في الانتخابات الهزلية، بما يُسمى الأعراس الديموقراطية! لا تُعيد سلطان التشريع إلى صاحب التشريع الأعلى، وهو الله تعالى ، ولا تُلغي تشريع البشر.
يمكن لهذه الوسائل، أن تكون لها فاعلية وتأثير، بعد إزالة رؤوس المشركين، وابعاد الذين يُشرعون من دون الله، من سدة الحكم، ومن سلطة استعباد البشر، وبعد أن يصبح الدين كله لله كما أمر ﴿ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ﴾ التوبة 33.
ومن النفحات الهامة، والرائعة جداً ليوم الفرقان! أنه تأكد بشكل يقيني، وقطعي، أن الإسلام! هو الذي يجب أن يسود على البشرية، ويهيمن عليها، وهو الذي يجب أن يحكم البشرية بتشريعاته الربانية، التي تحقق العدل الكامل لها، والمساواة بين جميع فئاتها، دون تمييز، لا في العرق، ولا اللون، ولا الجنس، ولا الدين..
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ".
وقد ينبري المفسدون، ومرضى القلوب، والمتضعضعون، والمنهزمون، والمستكينون لأعداء الله، والذين تشربت الدونية في قلوبهم، وأسرتهم أفكارهم، وهيمنت على عقولهم! فيقولون هذا إقصاء للأديان الأخرى، والأفكار الأخرى، وللأقوام الأخرى!
كَبُرت كلمةً تخرج من أفواههم! إن يقولون إلا إفكاً وإثماً.. ما هذا إلا مصطلح غربي باطل! لا وجود له في الإسلام البتة. إذ إن كل الناس في الحقوق والواجبات سواء. ولا فرق بين أعجمي أو عربي، ولا بين أبيض أو أسود، وشرع الله هو الحاكم للجميع، ولا تبادل بين شرعه وشرع العبيد.
وهم يريدون من وراء هذه التهمة الخبيثة، أن يتبادل ويتناوب الإسلام والكفر حكم البشرية، وأن يتداولا السلطة بينهما، وأن يصطلحا معاً في نقطة وسط بينهما!
ولهذا كلما ذكرنا أن الإسلام هو الذي يجب أن يهيمن، وأن يحكم البشرية.. نط هؤلاء الدهماء! وأشرعوا سيف الإقصاء، لتخويف المسلمين، وإلزامهم باحترام شريعة الكفر! حسب منظور المواطنة.
ولكن هيهات!.. الإسلام هو دين الله، وشرعه، ونظامه الأسمى، والأسنى، فهو الذي يجب أن يحكم البشرية رغم أنف الكافرين ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ التوبة 32
أضف تعليقك