لا تجد طاغيةً خاليًا من طيش ورعونة، كما لا يخلو من اضطراب وغباء، وتلك كفيلة بشقائه وشقاء أتباعه مهما بدا قويًّا ذا شوكة وبطش؛ فإن ذلك الطيش وتلك الرعونة يحملان أسباب هلاكه، كما يحمله غروره على الاستعلاء والاستخفاف بمن حوله، وهو لا يدرى أن ذلك استدراج إلى حين يأتيه الفناء من حيث لا يحتسب.
يحسب الطاغية وعبيده أنهم أهل عز وشرف لا تنحنى لهم هامة ولا تنخفض لهم راية، وأن ملكهم مؤبد لا يزول، وهى عزة كاذبة وشرف مختلّ، وقد خيَّب الله سعى كل من نهج نهجهم، وأبطل سحر من فعل فعلهم؛ إذ فى لحظة يهلك الظالمون ويزول عرشهم، ويصيرون أثرًا بعد عين وآية لمن يأتى خلفهم.
عاش فرعون الأمة منتفخًا مغرورًا يعامل قومه باعتباره إلهًا لهم، له ملك مصر، بجنانها وأنهارها وكنوزها وزروعها، يأمر فيُطاع، ويمنح ويمنع، ويحيى ويميت، وقد استأنس قومه ذل العبودية فأطاعوه على كل حال.. فلما أراد الله قطع دابره تبدل كل شىء فى برهة، فصار هذا الفاسد المتغطرس أهون على الله من ذرة فى فضاء، وصدق فيه قول النبى ﷺ، عن أبى موسى الأشعرى: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: (وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]».
وكان الله قد أنذره وحذره، وأرسل إليه الرسل بالآيات تخويفًا، لكنه مثل كل الطغاة أوهمه غروره بأنه عصى على الهزيمة فلم يسمع إلا لصوت الطائش المحتال الذى يسكنه، فتمادى فى غيه ولم يرتدع.
تجد فى قصة موسى والسحرة مشاهد عجيبة تثبت أن الطغاة خرجوا من رحم واحد، فهم إخوة فى العمى عن رؤية الحق، وفى الكذب والجرأة على الله، فضلًا عن قسوتهم وإجرامهم؛ إذ لما جُمع السحرة واتبعهم من اتبعهم من المغيبين ثم كان ما كان من استبصارهم وإيمانهم وقولهم للفرعون فاقض ما أنت قاض -نكَّل بهم وسامهم سوء العذاب؛ (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الشعراء: 49]، بعدما اتهمهم بالباطل واضعًا «موسى» على رأس قائمة الاتهام (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الشعراء: 49]. لم ينظر الملعون إلى الحق فيتبعه، إنما كانت كل مشكلته فيمن عصوا أمره وخرجوا عن طوعه؛ (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ..) [الشعراء: 49].
إن الذين اتخذوا من «عزة فرعون» قسمًا؛ (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء: 44] هم كل ذى مصلحة أو منافق أو جبان؛ إذ يحلفون بقدرة الظالم وينشدون النصرة بالتسبيح له، وهو السفاح الخبيث، وقالوا: (لَعَلنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) [الشعراء: 40]؛ فى نيتهم وقرارتهم ألا يتبعوا الحق، فكانت إرادة الله أن يخزيهم ويخزى من أقسموا به، فهدم سبحانه ما أسسه الفرعون -كما قال العلماء- على مدى أربعين سنة فى دقائق معدودة، وتحولت العزة المزعومة إلى ذل وصغار.
وهذا عين ما جرى فى قصة «أصحاب الأخدود»؛ فيريد الفرعون أمرًا ويكون لله فيه أمر آخر، يعز به الدين وينصر به أولياءه الصالحين ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون، وكما حدث مع «إبراهيم الخليل» -عليه السلام-؛ إذ أرادوا به كيدًا فجعلهم الله هم الأخسرين، وقال للنار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم، وقد وقع مرارًا لنبينا محمد ﷺ؛ ليتأكد قول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8]، وألا عزة لكافر أو منافق أو طاغية أو من يتبعونهم فى هذا الضلال، فقد مات رأس النفاق «عبد الله بن أبى بن سلول» ميتة الجرذان وهو من قال يومًا: (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) [المنافقون: 8].
مهما جمَّل «الفرعون» صورته ومهما بالغ فى إظهار قوته، ومهما استخف بقومه وغيَّب وعيهم، لا بد من ساعة فاصلة تنسف فيها تلك العزة الزائفة وتنكشف فيها سوءات من حادوا الله ورسوله، لحظة تُقلب فيها الموازين، وقد أتى عذاب الله من حيث لم يحتسب المجرمون، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد… وينجى الله الذين آمنوا لا يمسهم السوء.
أضف تعليقك