بقلم: سيف الدين عبدالفتاح
من القضايا المهمة في باب المواطنة تعلقها بتصور السلطة للمواطن وقيمته داخل المجتمع، واحترام وجوده وعقله وتفكيره، ومن ثم نرى دائما النظم الاستبدادية تستخدم أدواتها الإعلامية في عملية تضليل كبرى للمواطن، معتبرة إياه "سقط متاع" في الوطن لا وزن له ولا قيمة، ولا يأبه لرأيه ولا هو محل اهتمام للقيام بإقناعه بسياسات الدولة أو مواقفها.
خلاصة الأمر في هذا الاطار أن السلطة تنظر لذلك المواطن باستخفاف شديد، ضمن تلك القاعدة الفرعونية الاستبدادية "استخف قومه فأطاعوه"، وكأن ذلك الاستخفاف يمثل استراتيجية متكاملة في المجال الإعلامي وفي غيره، بحيث تمثل هذه السلطة الرأي الأوحد المنفرد، لا تُسأل عما تفعل وهم يُسألون.
وهي بهذا التصور لا ترى في إدارة المجتمع إلا أن يكون من منظور القطيع الذي يُوجه ويساق، ولا يُقنع ولا يُستند إليه كإرادة شعبية يمكن أن تشكل ظهيرا لسياسات النظام. ومن ثم فالسلطة لا تهتم بالرأي العام أو مواقفه أكثر من اهتمامها بالتلاعب به، والقدرة على القيام بعمليات من التسميم السياسي لتزييف الوعي وتكوين "إمعات" لا تعترض مهما قامت السلطة بتغيير مواقفها من النقيض إلى النقيض. وهي في هذا المقام تقوم بكل ما من شأنه من خلال أذرعها الإعلامية لتوجيه هذه المواقف ضمن عمليات خطيرة من غسيل المخ الجماعي.
ذكرني ذلك بكتاب مهم لأحد المتخصصين والخبراء في المجال الإعلامي، وقد جاءت ترجمة كتابه بعنوان: "المتلاعبون بالعقول"، والذي اشتمل في معظم فصوله على تلك اللعبة التي تمارسها تلك الأنظمة. ومن المدهش حقا أنه يتحدث عن ذلك التلاعب حتى في النظم الديمقراطية، إلا أن استراتيجية التلاعب بالعقول تظل صنعة المستبدين حينما يحاولون من كل طريق تصنيع رأي عام زائف في ظل تشكيل الرضا الكاذب، ضمن مواقف متباينة ومتناقضة تعبر في حقيقة الأمر عن الاستخفاف بالمواطن والمواطنة والشعب والوطن.
ولعل تلك الرؤية التي تتعلق بهذا النظام الانقلابي العسكري الفاشي في تصوره للشعب المصري، الذي طالما أشرنا إليه من خلال تلك التسريبات التي فضحت رؤيته للشعب من أنه "شعب جعان.. منيل بنيلة"، "نحن نقومه ونقعده، ثم نأخذ اللقطة ونلبسه العمة".. هذه الكلمات الدالة ضمن هذا التصور في إطار علاقة السيد بالعبد، والنظر إلى المواطن كسقط متاع؛ هو ما يشكل في الحقيقة رؤية خطيرة لهذا الشعب في إطار السياسات المختلفة والقرارات المهمة التي تمس مصيره، وكذا المواقف حيال قضايا محورية في هذا المقام.
ويمكننا أن نستدل على ذلك التصور بمشهدين مهمين من الجدير أن نشير إليهما؛ تحليلا وتفسيرا لتلك العقلية السلطوية التي تستخدم أدواتها الإعلامية في توطين تلك النظرة والعمل على تكريسها.
المشهد الأول، وهو ذلك الذي رأيناه بعد زيارة رأس السلطة الأمنية المصرية (رئيس المخابرات العامة) إلى غزة ومقابلته لرئيس حركة حماس في القطاع.. هذا المشهد فضلا عما ورد في الإعلام من بعد ذلك عن الدور المصري في القضية الفلسطينية وحول الدور المركزي في عملية التهدئة وبعض الكلام الإيجابي الذي ذكر حول حركة حماس، جعل الكثيرين يتندرون حول خطاب سابق يتعلق بشيطنة الحركة، بل وقضايا ما زالت منظورة إلى الآن للتخابر مع حماس وكذا دولة قطر.
هذا الموقف المتبدل الذي شكل في عرف البعض تحولا؛ كان من المهم أن نحترم فيه عقل المواطن والجمهور في محاولة للتأكيد على استنادات هذا التحول في موقف السلطة المصرية، ولكنها لا تأبه بذلك، فقط هي تطلب المظاهرة والتأييد الأعمى من جانب كل واحد، حينما اتهمت وشيطنة "حركة حماس"، حيث كالت لها وسائل الإعلام حينذاك الاتهامات والسباب والهجاء، ضمن عملية غسيل مخ جماعي للنيل من الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بل وظلت الانتهاكات الصهيونية مستمرة بعد ذلك الوقت، سواء بالاستيطان الصهيوني الذي يقضم الأرض وكذلك الانتهاكات المستمرة من جانب قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى، وكذا السياسات المستمرة في تهويد القدس، بل والصمت المريب بعد قيام الرئيس الأمريكي السابق ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس كعاصمة للكيان الصهيوني.
لا شك أن كل ذلك التناقض كان يحتاج إلى تفسير وليس إلى تعمية وانتقالات بين المواقف هنا وهناك، من غير أي محاولة لتقدير تفكير المواطن ومواقف الشعب الثابتة من القضية الفلسطينية، ناهيك عن الإسهام الاستراتيجي في حصار غزة والقيام بأكثر من عملية لإحكام هذا الحصار، بما فيها إقامة جدار عازل.
كل ذلك يحتاج من النظام الانقلابي أن يقدم تفسيرا، وأن يقوم ببعض الإقناع لهؤلاء حول تلك المواقف المتناقضة، على الرغم من أننا أيضا كنا قد أكدنا أن الموقف الأخير صاحبه كذلك حصار للشعب المصري في مشاركته للقضية الفلسطينية ولو حتى على مستوى التظاهر. فالنظام حذّر وأنذر ومنع واعتقل بعض هؤلاء الذين أرادوا أن يعبروا عن دعم ظاهر، ولو برفع العلم الفلسطيني في المجال العام.
أما المشهد الثاني فهو مشهد مركّب من الاستبداد والفساد والإفساد وتزييف الوعي والتلاعب بالعقول. فمنظومة السلطة الانقلابية التي أكدت على ضرورة أن يكون لها أذرعها الإعلامية وبشكل مبكر، قامت بكل عمل للسيطرة على الساحة الإعلامية بأسرها، سواء استهدفت وسائل إعلام خاصة أو وسائل إعلام حكومية، صحفية كانت أو مرئية، بالإضافة لتأسيس اللجان الالكترونية النشطة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وحاولت من كل طريق أن ترهب الرأي المعارض بل وتئده في المهد، وتصدر إعلاما لصوت واحد تندر عليه البعض وأسماه "إعلام السامسونج"، لقيامه بالإملاء على وسائل الإعلام بما يجب أن تقول وتتبنى وما يكون موضع تركيز للكلام والتداول.
ذلك أن الأمر تخطى الرقابة الإعلامية التي كنا نعرفها في عصور سابقة؛ إلى عصر الهيمنة المباشرة على وسائل الإعلام المختلفة، بل وشرائها ووضعها تحت الهيمنة المخابراتية. أكثر من ذلك، فقد بدا هؤلاء يتدخلون بشكل مباشر في البث الدرامي من خلال احتكار إنتاج المسلسلات والأفلام؛ حرصوا من خلالها على تقديم سرديات مخالفة للأحداث التي عشناها وعايشناها، وصارت تلك الأمور وكأنها فرع من فروع الشؤون المعنوية في المؤسسة العسكرية.
وبدا هذا الزيف في تلك السرديات يعبر عن نفسه في محاولة للقيام بطمس الذاكرة والقيام بعمليات من غسيل المخ الجماعي. وكانت قمة الاستخفاف الكبرى بعقول الناس في هذا المشهد ليس استخفافا في المحتوى والمضمون فقط، ولكن كذلك بالكشف عن قضية فساد كبرى في الشركة المخابراتية المهيمنة على القطاع الإعلامي، ورئيسها الذي كان يتحكم في توزيع الهبات على من يريد. وقد وصلت الخسائر إلى أرقام ضخمة جدا، ورغم ضخامتها لم تصل للسرقات التي قاربت المليار، وما خفي كان أعظم.
هكذا تستخف السلطة بالمواطن وتأخذ من قوت يومه ومن عرق جبينه؛ حتى تمول ليس فقط الكذب عليه والتزوير على عقله بل وتسعى لأن يكون للسرقات نصيب أيضا من أمواله، تقتيرا على معاشه وإحكاما لحلقة فقره.
إن المزاوجة بين هذين المشهدين واستدعائهما معا يؤكد أن الفاعل خلفهما واحد والهدف منهما متحد. ففي حقيقة الأمر أن هذه الممارسات وهذه التناقضات التي يمارسها النظام ضمن سياساته مروجا إياها بآلته الإعلامية الجهنمية وزبانية جوقته الفنية؛ إنما تؤكد في النهاية ذلك النظر المهيمن على السلطة في الاستخفاف بالمواطن والمواطنة والوعي المتعلق بهما، ضمن تصور مهين للشعب والجمهور وضمن استراتيجية تتعلق بتصنيع عقلية القطيع، وهذا هو أخطر ما في ذلك الموضوع.
أضف تعليقك