(1) النصرُ في ميدان النفس أولا:
قيل للإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَل -رحمه الله- أيامَ محنةِ خلْقِ القرآن: يا أبا عبدِ الله, ألَا تَرَى الحقَّ كيفَ ظَهرَ عليه الباطلُ؟! فأجابَ: «كَلَّا, إنَّ ظُهُورَ الباطلِ على الحقِّ: أنْ تَنتقلَ القلوبُ من الهُدَى إلى الضَّلالةِ, وقُلوبُنا بَعْدُ (أي لا تزال) لازمةٌ للحقّ».
إنَّ ثباتَ المؤمنِ على مبدئِه، هو انتصارٌ كبيرٌ وفوزٌ مبينٌ، حيث يعلُو على الخوفِ والجُبنِ، ويتَسَامَى على نوازعِ النفسِ وشهوةِ الرَّاحةِ، ويواجِهُ تهديداتِ الباطلِ وشدائدَ المحنِ وسقوطَ القامات والهامات، بشجاعةٍ وصبرٍ وثباتٍ ويقين. والإمامُ أحمدُ عندما ثبتَ على مبدئِه في المحنة، ورفضَ الاستجابةَ لجميعِ الضغوطِ ومحاولاتِ دفعِه للتراجُع كان في قمَّةِ انتصارِه.
بل لا سبيلَ إلى تحقيقِ انتصارٍ في أيِّ معركةٍ قبلَ الانتصارِ في هذا الميدان، فألْفُ معركةٍ خاسرةٍ في ميادين النزاعِ لا تعدِلُ خسارةً واحدةً في ميدانِ النفس، ولله دَرُّ المرشدِ الأمينِ الذي قال: «ميدانُكم الأوَّلُ أنفسُكم، فإنْ عجزتُم عنها فأنتم عمَّا سواها أَعْجَزُ، وإنْ قَدَرْتُم عليها فأنتم على ما سواها أَقْدَر».
(2) في أنباءِ التاريخِ شاهدٌ لو تعلمون:
نعم، لقد كان إبراهيمُ عليه السلامُ في قمَّةِ الانتصارِ والظالمون يقُولون ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾، وهو لا يُبَالي، وكَانَ آخِرَ قَوْلِه حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ».
وكان غلامُ أصحابِ الأخدودِ في قمَّة انتصارِه حين قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ.
وكان أصحابُ الأخدودِ هم المنتصرينَ وهم يُلْقَوْن في النَّار، ويرفضونَ المساومةَ على الحقِّ الذي آمنوا به، ويُفضِّلون الموتَ في سبيلِ الله على الخضوعِ لأهواءِ الظالمين، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ، اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.
وكان ثباتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على دينِه في مواجهةِ كلِّ الإغراءاتِ والضغوطِ التي وصلتْ إلى حدِّ إخراجِه من بلدِه ثانيَ اثنين انتصارًا أيَّ انتصار ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
وربَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجيلَ الأوَّلَ الأكرمَ من أصحابِه على هذا المعنى: أن الانتصارَ أوَّلُه الثباتُ على الدينِ، وعدمُ التراجعِ عن الحقِّ أو المساومةِ عليه مهما كانت العقباتُ والمعوِّقات، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ،: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وفي المحنةِ مع الإمامِ أحمدَ ثبت الموَفَّقُونَ من علماءِ الحقِّ ثباتَ الجبالِ، وكتبت ابنتا صاحبِه عاصمِ بنِ عليٍّ من وَاسِطٍ لأبيهما: «يَا أَبَانَا، إنَّه بلَغَنَا أنَّ هذا الرجلَ (الخليفة) أخذَ أحمدَ بنَ حنبل فضربَه بالسَّوْطِ على أن يَقُول: القُرآنُ مخْلوقٌ، فاتَّقِ اللهَ ولا تُجِبْهُ إنْ سَألك، فواللهِ لَأَنْ يَأْتِينَا نَعِيُّكَ (أي الذي ينقلُ لنا خبرَ موتِك)، أحبُّ إلينَا مِنْ أنْ يَأْتِيَنا أنكَ قُلْتَ».
وقال أبو يَعقوب يوسف بن يَحيى البُوَيْطي وهو في قيوده: «والله لأموتنَّ في حديدي هذا حتى يأتيَ من بَعدي قومٌ يعلمُون أنَّه قد ماتَ في هذا الشأنِ قومٌ في حَديدِهم، وَلئِنْ أُدْخلتُ عليه لأصدُقنّه» (يعني الخليفة الواثق).
وفي العصرِ الحاضرِ كانَ ثباتُ سيد قطب -رحمه الله- في مواجهة كل الضغوطِ واستعلاؤُه على كل الإغراءات انتصارًا للحقِّ الذي عاشَ من أجلِه، واستُشْهِد في سبيله.
وكان -ولا يزال- ثباتُ أهل غزَّةَ وفلسطين وعلى رأسهم الأسرى الأبطالُ والشهداءُ العظامُ أحمد ياسين والرنتيسي وفتحي الشقاقي وإبراهيم المقادمة ويحيى عياش وسعيد صيام وغيرهم انتصارًا للمبادئ التي آمنوا بها.
(3) الثباتُ هو انتصارُ المبدأ، وهو المقدمةُ الحقيقيةُ للنصرِ في سائر الميادين:
فأما أبونا وسيدُنا إبراهيم عليه السلام، فنجَّاه اللهُ من النار ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾، وبلغ ما أمَّل حين قال ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، وصارتْ مِلَّتُه الحنيفيَّةُ هي الحقَّ التي يتفاخرُ كلُّ مُدَّعٍ للحقِّ في هذا الوجودِ بالانتسابِ إليها، وشرَّفَنا اللهُ بأنْ جعلَنا أَوْلَى الناس بها ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وأما عبدُ الله الغلامُ فعندما قتله الملِكُ الظَّالمُ، حقَّق اللهُ أملَه، ونصرَ دعوتَه، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ.
وأما نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وأما أصحابُه الكرامُ فحينما ثبتوا للمحنِ والشدائدِ فتح اللهُ عليهم الآفاقَ، ودانتْ لهم الدُّنيا، ودخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجًا.
وأما إمامُنا أحمدُ بن حنبل ومن معه فارتفعوا وانتصر الحقُّ الذي استمسَكوا به، وقد قال رحمه الله: «ما سمعتُ كلمةً منذ وَقعْتُ فى الأمرِ الذى وقعْتُ فيه, أقْوَى من كلمةِ أعرابيٍّ كلَّمَني بها, قال لى: يا أحمد, إنْ يَقْتُلْكَ الحَقُّ مُتَّ شَهِيدًا, وإنْ عِشْتَ عِشْتَ حَمِيدًا, قال: فَقَوَّى قلبي».
فكانَ كما قال؛ لقد رَفع اللهُ عزَّ وجلَّ شأنَ أحمدَ بنِ حنبل بعدَما امتُحِن, وانْجَلَت الغُمَّةُ، وعَظُم عندَ الناس وارتَفع أمرُه جدًّا، وصارتْ كلمتُه ترفعُ وتخفِض.
وأما سيد قطب فبقِي هو مذكورًا بالشهادةِ، وطُوِي ذِكْرُ قاتليه مصحوبًا باللعنات، ودبَّت الحياةُ في كلماتِه وصارت كتبُه تملأُ مكتباتِ الدنيا، ويستضيءُ بها الأحرارُ في كلِّ مكان، بعد أن كان تداوُلُها سِرًّا، وكانت حيازتُها خطرًا، وهذا ما قصده رحمه الله عندما قال: «إنّ كَلِمَاتِنا ستَبْقَى مَيِّتةً: أعْراسًا مِن الشُّموعِ، لا حراكَ فيها، جامدةً! حتى إذا مِتْنَا مِن أجلِها؛ انتفَضتْ حيّةً، وعاشَتْ بين الأحياء».
وأما أبناءُ القسَّامِ والياسين والرنتيسي فلا يزالون يُسَطِّرُون كتابَ المجْدِ والعِزَّةِ والنَّصْرِ بدمائِهم الزكيَّة وبُطولاتِهم الأُسطوريةِ وإبداعاتِهم العبقريةِ، التي قهرت الجيشَ الذي لا يُقْهَر(!)، وسيكتبُ التاريخُ أنهم أَوْلَى الناسِ بالخلودِ والتَّمْجِيدِ، بما يكتبونَ من مستقبلٍ مَجِيدٍ للحقِّ والعدْل والحريَّةِ في هذا العالَم الظالِمِ أهلُه.
(4) أيُّها الثُّوَّارُ الأحرارُ اثبُتوا وأَبْشِروا:
أما أنتم أيها الثابتون في ميادينِ ثورةِ الحُرِّيةِ والعَدالَةِ الاجتماعيَّةِ والكرامةِ الإنسانيةِ في ربُوعِ مصرَ المباركة، رغمَ المجازِرِ الوحشيةِ التي ارتكبها الانقلابيُّون الدمويُّون في رابعةَ والنهضةِ والحرسِ والمنصَّةِ ورمسيس والمنصورةِ والاسكندرية وغيرها، ورغمَ الحَرْقِ للأحياءِ وللمساجد، ورغمَ البطشِ الأمنيِّ الانقلابيِّ، ورغمَ الأحكامِ الجائرةِ المنسوبةِ زُورًا للقضاء، ورغمَ القصفِ الإعلاميِّ الأحمقِ الخؤون؛ فإنَّ ثباتَكم وصُمودَكم واستمساكَكم بالحقِّ، واستمرارَكم في ثورتِكم السلميةِ، وإبداعَكم في حراكِكم الرائعِ؛ لهو في ذاته نصرٌ مبينٌ، وإرهاصٌ وبشيرٌ بالنصرِ العظيمِ للخيرِ على الشرِّ، وللحقِّ على الباطلِ، وللفضيلةِ على الرَّذيلةِ، قريبًا إنْ شاء الله ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾.
نشر في الثلاثاء 5 أغسطس 2014
أضف تعليقك