بقلم.. وائل قنديل
حجم التحليلات والدراسات السياسية والقانونية المكتوبة بشأن كارثية تلك الاتفاقية يكاد يقترب من حجم المياه التي خزنتها إثيوبيا خلف السد، حتى صار مستقرًا لدي المتابعين أن لا مخرج لمصر من هذا المأزق إلا بالخروج من الاتفاقية التي أهداها السيسي للإثيوبيين.
أصوات عديدة ذهبت إلى أن أحد المخارج من الورطة عرض الاتفاقية على البرلمان المصري لإسقاطها، والتحلل من قيودها رسميًا، فيما ذهبت أصوات أخرى إلى ضرورة أن تعلن مصر تمزيق الاتفاقية المشينة، وإلقاءها في وجه الإثيوبيين، والذهاب إلى تدمير السد بالقوة.
تتأسّس معظم الآراء والتحليلات على أن أديس أبابا تتعنت وتتبجح، استنادًا إلى بنود الاتفاقية التي في قبضتها، موقعة في احتفالية مبتذلة، من عبد الفتاح السيسي، ومن ثم فهي ترى أنها، سياسيًا وقانونيًا وواقعيًا، في موقفٍ أقوى، يتيح لها المضي في مشاريع البناء والملء والتخزين، وهي على يقين بأن القانون الدولي في صفها. غير أن ذلك كله لم يمنع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، من تقديم هديةٍ إضافيةٍ، مجانية، أخرى للإثيوبيين، وهو يضفي شيئًا من القدسية القانونية والجدارة السياسية على اتفاقية 2015، إذ أعلن، في حوار متلفز، عشية نزوله ضيفًا على الدوحة "أن اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة عام 2015 حافظت على حقوق مصر ووضعتها في إطار قانوني"، مضيفًا أنها "هي التي ترتكز عليها مصر الآن في مفاوضاتها، لوضع شرط للملء والتشغيل والتوصل إلى مسار يؤدّي إلى اتفاق يراعي الدول الأطراف".
في اللحظة ذاتها التي يتمسّك فيها شكري باتفاقية المبادئ، محتكمًا إليها، فإنه يرسل خطابًا رسميًا إلى مجلس الأمن، يشكو فيه أديس أبابا، متكئًا على الاتفاقية، والتي تنص صراحة، في أحد بنودها، على أنه في حالة النزاع بين الأطراف الثلاثة لابد من اتفاق الدول الثلاث مُجتمعةً على اختيار وسيط المفاوضات الجارية بينهم، وهو ما يعني أنه لا يمكن لمصر، منفردًة، أو مصر والسودان، مجتمعتين، اختيار دولةٍ أو جهةٍ دولية للوساطة، من دون موافقة الطرف الثالث، وهو إثيوبيا.
هذا يعني مباشرة أن عبد الفتاح السيسي، بتوقيعه، قد وضع كل الغلال في سلة إثيوبيا التي تتمتع بمزايا غير مسبوقة، تمنحها حق التحكم في مواعيد الملء وكمياته، ولا يفرض عليها قيودًا، سوى "إخطار"، وليس استئذان، دولتي المصب، قبل تنفيذ أي خطوة، وهذه ليست معلومةً جديدة، لكنها من البديهيات التي يحفظها كل منشغلٍ بقضية سد النهضة عن ظهر قلب.
كل ما سبق يجدّد طرح السؤال: هل هؤلاء، بمثل هذه التصريحات التي تنهمر هدايا مجانية فوق أثيوبيا، جادون حقًا في مواجهتها، سلمًا أو حربًا، للتخلص من كابوس الأخطار الوجودية لسد النهضة؟. سيقول لك أحدهم، وهو يتيه شطارًة ونباهًة، إنه الذكاء الدبلوماسي الذي يراوغ إثيوبيا، ويستعمل سلاح التمويه السياسي، فيعطي إشارةً للاتجاه يمينًا، ثم يباغت الجميع بالاتجاه يسارًا، أو يبدو هادئًا دبلوماسيًا، ثم ينقضّ عسكريًا، والنماذج كثيرة ومنتشرة بكثافة من هذا الهراء المشتعل في حقول قصب "السوشيال ميديا"، على نحو يدعو إلى الأسى على العمر العقلي لنظام يحكم دولةً من الأقدم في التاريخ.
من ذلك الهراء، اعتبار تأجيل الجانب الإثيوبي الملء الثاني للسد انتصارًا معجزًا، حققه السيسي بنظرة عين حمراء، أو معجزة جاءت من السماء، أو في رواية أخرى ضربة سيبرانية مذهلة لجيوش النظام الإلكترونية.
هذا يذكّر بقصة الحاخام والخنزير الشهيرة، بحيث تم الدفع بالأمور إلى اعتبار تأجيل الملء لدي جمهور السلطة انتصارًا، بينما واجب الوقت هو التخلص من السد، بوضعيته وظروف تشغيله الحالية، بوصفه مطلبًا وجوديًا.. فيما تسوّقه أديس أبابا مكرمة منها أو تنازلا، بينما الحكاية أن منسوب الفيضان لم يسمح بالملء هذا الشهر، فتأجلت الخطوة إلى وقتٍ آخر.
في هذه الأجواء، قد يكون الكلام معادًا ومكررًا حد السأم، أن دولة غير متصالحة مع نفسها اجتماعيا وسياسيًا لن تستطيع مواجهة تحدّيات خارجية بكفاءة، غير أنه بالنظر إلى الانشغالات الرسمية المصرية في هذه الأيام العصيبة ستجد العجب العجاب. ستجد القضية، أو بالأحرى"اللا قضية" التي تغرق فيها المنظومة القضائية والإعلامية نفسها، وأعني قضية اكتشاف "كنز علي بابا" الوهمي في شقة مواطنٍ بمنطقة الزمالك، وسوف يصدمك هنا أن الدولة التي تعتبر اقتناء التحف واللوحات الفنية جريمة وخطرًا، يهدّد الأمن القومي، هي ذاتها الدولة التي تسمح فيها لبلطجية ومحترفي إجرام باقتناء قطعانٍ من الحيوانات المفترسة في مزارعها وقصورها، لاستخدامها في أعمال البلطجة وإرهاب الناس بها. ستجد، كذلك، تلك الحرب الشاملة على المطرب إيمان البحر درويش، قضائيًا وإعلاميًا ونقابيًا، لأنه تجرأ ومارس حقه كمواطن في التعليق والنقد للأداء السياسي في مشكلة سد النهضة.
ولو مددت بصرك صوب البرلمان ستجدهم مستغرقين في سلق تشريع جديد، لاستئصال "الإخوان" من الدولة، والإخوان باتت تترجم مباشرة إلى: كل معترض أو معارض، وهو تشريع لا مثيل له سوى قانون الترانسفير الذي اخترعه أحد الصهاينة المؤسسين للاحتلال، تيودور هيرتزل، لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم.
أضف تعليقك