بقلم: سيف الدين عبدالفتاح
يبدو لي أن تلك السلسلة التي كتبناها تحت عنوان جامع "المواطنة من جديد" كان لها من الدواعي التي جعلتها تكتب نفسها بنفسها، وتتخير موضوعاتها من خلال أحداث صارت من قِبل هذا النظام (نظام الثالث من يوليو) من التواتر والتراكم بحيث تشكل تهديدا لقضايا مهمة للوطن والمواطن على حد سواء، فتنتهك معنى الوطن وتفسد أي مغزى من مغازي المواطنة الحقيقية، وتجعل المواطنة موصوفة بكل صفات سلبية؛ فهي تارة المواطنة "المحبوسة"، وأخرى "المقهورة"، وفي توصيف ثالث "المهدورة"، وتصل بتلك الأوصاف إلى قمتها حينما تكون المواطنة "المعدومة".
وقد كنت أنوي أن أكتب هذا المقال حول فكرة دارت في نقاش بيني وبين بعض الأصدقاء، أن المواطن في مصر مجرم حتى تثبت براءته، ولكنني لم أكن بعد على اطلاع بهذا الخبر الصاعق الذي أصدرته محكمة النقض، والذي تضمن تأييدها لأحكام بالإعدام لاثني عشر مواطنا، وبالمؤبد لواحد وثلاثين مواطنا، وبالسجن المشدد بسنوات متفاوتة للمتهمين في القضية. ويعد هذا الحكم نهائيا وباتا ولا يجوز الطعن عليه بأي وجه من الوجوه.
وهنا يبدو لنا الأمر - بالنسبة لمفهوم المواطنة - أنه إعدام بلا قضية للمواطنة؛ والتأكيد على أن المواطن ليس فقط هو محل اتهام بجريمة، ولكنه محل إعدام من دون قضية تذكر، خاصة حينما تكون تلك الإعدامات الأخيرة في قضية يفضح اسمها هذا النظام الفاشي الذي أراد من كل طريق ألا يكتفي بقتل ما يزيد عن الألف في مجزرة رابعة وكذا في مجزرة النهضة، ولكنه مستمر في القتل بتلفيق القضايا، ومن بينها هذه القضية التي أسماها "فض رابعة"، والتي عمد فيها على قاعدة كيف يمكنك أن تطمس الحدث وتغيب هذه الجريمة الكبرى؛ ليس فقط بقتل من شارك في اعتصام رابعة، ولكن في إعدام من كانوا شهود عيان لها، فيعاقب الشهود ليحكم عليهم بإعدامات ظالمة بتلفيقات فاجرة.
إعدام بلا قضية للمواطنة؛ والتأكيد على أن المواطن ليس فقط هو محل اتهام بجريمة، ولكنه محل إعدام من دون قضية تذكر
وهنا يقفز لدينا تساؤل من مواطن حول مواطنين تلفق لهم القضايا ويحكم عليهم بالإعدام من أقرب طريق، من قضاء فاجر اُختطف كمؤسسة وصار يحكم بإعدامات بالجملة، ويقوم هذا النظام بتنفيذ تلك الإعدامات متخيرا الأوقات ومحاولا من كل طريق أن يثبت أنه يتمادى في طغيانه وفجره، ويستخف بالنفوس البشرية في مشاهد فاضحة تتعلق بمحاكمات ظالمة واتهامات ملفقة.
ومن الواضح في مثل تلك القضايا وفي مثل هذه الأحكام المتكررة بالإعدام، سواء أكانت في درجتها الأولى أو في درجتها الأخيرة بأحكام نهائية، أن مؤسسة القضاء في ظل هذه النظم المستبدة الطاغية لم تعد هي الحصن الأخير والملاذ للمواطن والمواطنة، ولكنها باتت تساعد السلطة في الاستفراد بالمواطن وقتلته بلا حساب ومن غير حساب. وأدى بها كل ذلك إلى أن تستخف بالنفوس، وجعلت الإعدامات كالأحكام الاعتيادية يصدرها قاض مأجور تحت دعوى أن "القضاء يتسم بالنزهة والاستقلالية".
مؤسسة القضاء في ظل هذه النظم المستبدة الطاغية لم تعد هي الحصن الأخير والملاذ للمواطن والمواطنة، ولكنها باتت تساعد السلطة في الاستفراد بالمواطن وقتلته بلا حساب ومن غير حساب
ومن ثم فإننا نقول إن مسؤولية القضاء عن مثل تلك الأحكام هي مسؤولية مباشرة واضحة، خاصة في ظل ما يصدره من أحكام جائرة ومحاكمات ظالمة، حتى لم يعد "بعد المداولة" ولكنه صار "الحكم بعد المكالمة".
باتت تلك الإعدامات ركنا ركينا في استراتيجيات النظام في الترويع والتفزيع واستخدام القتل بأنواعه. هذا النظام الانقلابي يمارس القتل ظلما وكل أنواع القتل خارج إطار القانون، بعد اختطاف قسري وقتل بطيء بإهمال معالجة المسجونين والمعتقلين حتى الموت، والقتل قضاء بأحكام الاعدام ظلما.. كل ذلك أنواع من القتل احترفها النظام وتشكل في حقيقة الأمر وجها حقيقيا لفاشيته في التعامل مع معارضيه.
وتأتي المحاكمات غير العادلة والتي يصفها بعض الحقوقيين وأساتذة القانون بأنها جريمة متكاملة الأركان. كما أن الإعدام عبر تلك المحاكمات الجائرة الظالمة قتل متعمد لكل من أراد النظام ترويعه، ولذلك صدق من شبه تلك القضية المسماة بفض رابعة بأنها "حادثة دنشواي القرن الواحد والعشرين". ومن المفارقات كما ذكر أن وقعت تلك الحادثة في شهر حزيران/ يونيو في العام 1906. ولا شك أن هذه المحاكمات الجائرة في دنشواي القديمة تحت ظل الاستعمار وتلك الأحكام في دنشواي الجديدة تحت ظل الانقلاب ستتوارث أسماء المدانين وتتذكرهم بالرحمات، وستتذكر أسماء القضاة الذين حكموا بتلك الأحكام الجائرة والنظام الذي أمرهم بذلك ومن أسهم في إدانتهم بغير حق أو مستحق، ستظل تلك الأسماء أيضا مقرونة باللعنات.
باتت تلك الإعدامات ركنا ركينا في استراتيجيات النظام في الترويع والتفزيع واستخدام القتل بأنواعه. هذا النظام الانقلابي يمارس القتل ظلما وكل أنواع القتل خارج إطار القانون، بعد اختطاف قسري وقتل بطيء بإهمال معالجة المسجونين والمعتقلين حتى الموت، والقتل قضاء بأحكام الاعدام ظلما
ومحكمة النقض بقضاتها وبإصدارها هذا الحكم النهائي ضد أكثر من 700 شخص، والذي لا يذكر له التاريخ مثيلا، خصوصا أن آخر تلك القضايا السياسية التي اشتملت على عدد كبير من المتهمين كانت تلك المسماة بقضية الجهاد الكبرى التي وقعت في عام 1981، وقد كان عدد المتهمين فيها 302 متهما فقط. وبالرغم من وجود أحداث عنف حقيقية وقتل عشرات الضحايا بما فيهم رأس الدولة حينها (السادات)، إلا أن المحكمة لم تحكم بالإعدام على أي شخص، والمحكمة التي حكمت بالإعدام على خمسة من المشاركين في قتل السادات كانت محكمة عسكرية.
ومن ثم فإن هذا الحكم يعد حكما غير مسبوق في فجاجته وجوره ويجعل، يوم صدور هذا الحكم من أشد الأيام سوادا ضمن هذا الظلم والظلام الذي جلبه النظام الفاشي (نظام الثالث من يوليو). وقد فاق فجور هذا النظام سابقيه الذين كانوا يحافظون على هامش حركة للقضاء، وكانوا يشكلون محاكم عسكرية لتنفيذ ما يريدونه من أحكام. فمؤسسة القضاء ظلت محافظة بدرجة من الدرجات على هيبتها ومكانتها، وهو ما لم يعد متوفرا في الوقت الراهن لا لمؤسسة القضاء ولا لغيرها من المؤسسات.
فقد باتت جميع المؤسسات مخطوفة من قبل هذا النظام، حتى مؤسسة الإفتاء، حيث يشارك المفتي النظام ومؤسساته الأمنية والقضائية في تحمل وزر هذا الدم، ويساهم أيضا في اختطاف مؤسسة الإفتاء التي يقع على رأسها. فهو لا يتحر وجه الله ولا يتحر حرمة الدماء، ولكنه يسهم من كل طريق بتمرير تلك الإعدامات بموافقته وتوقيعه.
إن أخطر ما في هذا المشهد هو مشهد الإعدامات السياسية، والذي أرى فيه تواطؤا خطيرا داخل الدولة ومن بعض هؤلاء الشامتين الذين يلقون شماتتهم مرحبين بإراقة مزيدا من الدماء.
إن أخطر ما في هذا المشهد هو مشهد الإعدامات السياسية، والذي أرى فيه تواطؤا خطيرا داخل الدولة ومن بعض هؤلاء الشامتين الذين يلقون شماتتهم مرحبين بإراقة مزيدا من الدماء
متى يشبع الانقلابيون من إزهاق أرواح أهل مصر ومواطنيها من كل صوب وحدب ومن كل لون واتجاه، ضمن عملية كبرى لزرع الكراهية بين فئات الجماعة الوطنية وركائزها الراسخة ومحاولة تمزيقها، بل واستنفار كل هؤلاء لحروب أهلية كامنة؟
ومن ثم فإن ما كتبه أحد المفكرين حول مخاطر الإعدامات السياسية وكارثيتها ليؤكد أنه من غير المفهوم وغير المقبول هو إعدام المعارضين الذين قاموا بالثورة أو شاركوا فيها، لأننا في البداية والنهاية كنا بصدد تنافس سياسي تحول إلى صراع قد تتبدل فيه المواقف والمراكز والظروف والقيادات في أي لحظة. وعلى الطاغية أن يعلم ومعه كل هؤلاء الذين شاركوا في تلك الجريمة؛ أنه لا يمكن لهذا الأمر أن يمر من غير حساب، وأن هذا الذي يقوم على إعدام الوطن والمواطن إنما يشكل في حقيقة الأمر نوعا من الاستئساد في قضية استفرد بها هؤلاء بالضحية، وبدلا من أن يحاكم القاتل الحقيقي إذا به يلقي تلك التهم جزافا على كل أحد في محاولة لطمس الحدث والذاكرة المتعلقة به وقلب الحقائق.
والكل يعرف ما الذي حدث في رابعة، إلا أن هؤلاء يصرون ليس فقط على قتل من شارك في الثورة أو شارك في اعتصام رابعة، ولكن أيضا قتل من يقع تحت يده من الشهود ومطاردة البقية. إن نظاما يفكر بهذه الطريقة لا يمكنه الاستمرار أو البقاء.
أضف تعليقك