في العدوان الأخير على غزة، قلت إن أمام محمود عباس فرصة تاريخية لإنهاء مسيرته السياسية بكرامة، فيترك السلطة لقيادة شابة، تقود شعبها المقاوم. .. كنت أهذي، في الغالب، لأن عباس بدا في لحظته أكثر عنفًا في التشبث بالسلطة، عن طريق تسويق نفسه للاعبين الرئيسيين بالمنطقة.
لم يختر عباس لنفسه نهاية كريمة، فجاء العقاب سريعًا، لتكون النهاية مذلّة ومهينة على يد شعبه الذي انطلق في ثورة فلسطينية شاملة ترفع شعارًا وحيدًا في وجهه: ارحل. .. وبذلك، قد يكون محمود عباس أول حاكم على شعب يسعى إلى التحرّر من الاحتلال، ويهتف له هذا الشعب "شيّد قصورك" ذلك الهتاف الخالد الذي صار أغنية الأجيال العربية في وجه كل طاغية.
في التظاهرات التي اندلعت في رام الله ومدن الضفة الغربية ضد محمود عباس وسلطته، عقب اغتيالها الشهيد نزار بنات في منزله، وسط زوجته وأطفاله، قال الفلسطينيون لعباس: ارحل .. وأشهروا في وجهه كلمات أغنية الثورات العربية التي كتبها أحمد فؤاد نجم، وتغنّى بها الشيخ إمام عيسى قبل نصف قرن: "اطلق كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا".
الحشود التي استقبلتها أجهزة محمود عباس الأمنية بطلقات الخرطوش وقنابل الغاز خرجت تطلب الثأر لدماء معارض فلسطيني، في منتصف عمره، تم قتله واختطاف جثته أمام أسرته، المكونة من زوجة وأربعة من الأولاد والبنات، أكبرهم في سن الصبا.
كل جريمة هذا المعارض أنه كان يتكلم ويمارس حقه، بل واجبه، في رفض كل صور الفساد والقمع التي تمارسها سلطة عباس لمصلحة الاحتلال الصهيوني. كان يعبّر عن مشاعر الشعب الفلسطيني كله، عن طريق منصّات التواصل الاجتماعي، يكتب ويتحدّث بصوته، ويعارض حبًا في فلسطين وحلمًا بالتحرّر، من الاحتلال ومن يراهم أعوان الاحتلال.
كان نزار بنات يدرك، بالتأكيد، أنه يواجه سلطة باطشة وفاسدة، لكنه لم يكن يتصوّر، كما لم يكن أحد يتخيّل، أن تسلك هذه السلطة العجوز مع أحد مواطنيها وكأنها سلطة احتلال تمزّق أجساد مقاوميها.. من كان يتخيّل أن سلطةً تدّعي، طوال الوقت، أنها تقود شعبها نحو الحرية والحياة الكريمة، تقتل أنبل أبناء شعبها بهذه الوحشية؟.
من كان يتصوّر أن قائد حركة تحرّر يتصرّف على نحو أبشع من حكام الاستبداد العتيق، الضارب بجذوره في عمق الزمن؟ وحده محمود عباس ينفرد بهذا الإنجاز، ويتفوّق على أقدم الطغاة وأشرسهم، ويقتل معارضيه بهذه القسوة، وهو مدركٌ أنه في حماية الاحتلال الصهيوني الذي قد يقبل بالتخلص من رؤساء حكوماته، لكنه ليس مستعدًا بأي وجه، وتحت أي ظرف، للتفريط في محمود عباس، أو حتى اهتزاز عرشه في قصر التنسيق الأمني.
غير أن الشعب الفلسطيني، هذه المرّة، لم يخرج للتظاهر ضد ممارسات عباس وطريقة إدارته السلطة، بل خرج ضد وجود محمود عباس نفسه، وبقائه في الحكم، مدشّنًا ثورة فلسطينية حقيقية، لا أظنها سوف تهدأ قبل اقتلاع حكم محمود عباس من جذوره، ولن تقبل بغير التخلّص من هذه السلطة التي تبدو أكثر حرصًا على حماية الاحتلال الإسرائيلي من حرصها على مصالح شعبها.
الجماهير الفلسطينية تردّد هذه المرة بصوت الشيخ إمام "احنا اتوجعنا واكتفينا"، غير ناسيةٍ أن الشخص الذي يحكمها بقوة الاحتلال هو الذي لم يخجل قبل عامين من الإعلان صراحة عن حرصه على أمن إسرائيل واستقرارها، حين قال في افتتاح ما أطلق عليه "منتدى الحريّة والسلام الفلسطيني" في مقر السلطة برام الله، بحضور شخصيّات صهيونية: "نحن لا نسعى ولن نعمل على إغراق إسرائيل بالملايين .. هذا هُراء .. نحن نعمل من أجل مُستقبل شباب إسرائيل.. ونُقدّر حساسيّة إسرائيل تُجاه الأمن، وخوفها من المُستقبل والتطرّف، ونقبل بحلف الناتو ليقوم بمُهمّة تأمين الأمن للطّرفين، ونتمسّك بكُل اتفاقاتنا الأمنيّة لمُواجهة خطر الإرهاب".
ذات يوم، قلت إنه بات على المواطن الفلسطيني المتشبث بأرضه وحقوقه أن يتحرّر من مجموعة من الأوهام المفروضة عليه، قبل أن يفكّر في تحرير أرضه، وأول هذه الأوهام وأخطرها الاستمرار في توصيف محمود عباس زعيمًا للفلسطينيين، وممثلًا حقيقيًا لآمال الشعب الفلسطيني وآلامه، ورمزًا لكفاحه من أجل قضيته.
الشاهد أن استشهاد نزار بنات، المقاوم بالكلمة، يمثّل لحظة فارقة في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو الحرية، إذ صار هذا الشعب على قناعةٍ بأن تحرير فلسطين يبدأ من تحرير رام الله من سلطةٍ، من المفترض أنها سلطة مقاومة، لكنها تتفانى في خدمة الاحتلال وتحقيق أمنه واستقراره.
أضف تعليقك