بقلم.. وائل قنديل
لن يكون مدهشًا لو قرأتَ على شريط الأخبار نبًأ عاجلًا يقول: إثيوبيا تتعهد بتأجيل الملء الثاني لسد النهضة حتى تحسم مصر قضية الاغتصاب الزوجي. .. فالحاصل أنّ مصر في هذه اللحظة تبدو نموذجًا للدولة اللاهية، بلا قضية حقيقية، أو بالأحرى دولة القضايا التافهة الكثيرة، متفاوتة الأوزان في تفاهتها. لكن الأخطر من ذلك أن المراقب من بعيد للمشهد المصري يكاد يشعر بأن المشروع القومي الأساس للدولة المصرية هو تغذية الاحتراب المجتمعي بين مكوناتها الأساسية، بحيث تبدو البلاد منقسمة إلى فريقين: فريق مشروعه الوحيد في الوقت الراهن هو حرب إبادة لا هوادة فيها على ثورة يناير، واستئصال "الإخوان" من الجذور، مع ملاحظة أن مفهوم الإخوان هنا لا ينسحب، فقط، على تلك الجماعة التي أسّسها حسن البنا قبل أقل من قرن، وإنما بات يشمل كل من يعارض النظام، معارضة مطلقة أو نسبية ومحدودة، بصرف النظر عن كونه إسلاميًا، أو ماركسيًا أو ليبراليًا، أو بلا أي لون أيديولوجي صريح.
ويتأسس الحلم القومي لهذا الفريق على مبدأ الاستحلال، استحلال الخصم في أمواله وأعماله ودمه وسمعته، وممارسة الظلم من دون حدٍّ أقصى، باعتباره ضرورة وطنية وقومية، طلبًا لمستقبلٍ يخلو من أي أثر لكل هؤلاء، الأشرار، ومن ثم يخوض حربًا وجودية ضدهم.
على الجانب الآخر، الحلم المستقبلي الوحيد للفريق الذي يتلقى كل هذه الضربات والإهانات، ويتعرّض للتنكيل والمحو ويتجرع المظالم، هو تلك اللحظة التي يزول فيها حكم الجبابرة الأوغاد، حتى يبدأ عملية الانتقام والثأر من أولئك الذين عذّبوه وشرّدوه واستباحوه في دمه وماله.
بين الفريقين، ثمّة تيار ثالث، صامت وعاجز، يحاول عبثًا الحياة في منطقةٍ عازلة بين الطرفين الرئيسيين، فيلجأ إلى الحل المستحيل: إدانة الضحايا بمنتهى الوضوح، وإدانة الجناة، على استحياء، متسلحًا بكل مهارات التورية والمواربة.
ثمّة أسئلة مزعجة، تفور على السطح كلما ألقيت نظرةً على الحالة المصرية، وما يكتنفها من سيادة روحٍ انتقامية، فاشية واستئصالية، لا تتوقف منذ انتزع عبد الفتاح السيسي الحكم بقوة السلاح، وبإرهاب المذابح الجماعية في العام 2013.
أول هذه الأسئلة: هل يؤمن جمهور عبد الفتاح السيسي، الذي لا يشبع من الانتقام، بأن هذا الذي يعتبرونه أسطورًة قادمة من السماء، أنه سوف ويرحل طال الزمان أم قصر؟ هل يؤمن عبد الفتاح السيسي شخصيًا بهذه الحقيقة الوجودية؟
الرجل طوال الوقت يتحدّث عما سيقوله أمام الله، وكيف "سأحاجيكم عند الله" ما يعني أنه مدرك لهذه الحقيقة. .. لكن، هل فكر السيسي وجمهوره في اللحظة التالية لإعلان رحيله، وكيف ستصير الأمور في المجتمع المصري؟
حين نجح انقلاب السيسي في صيف 2013 انطلق نظامه يحرق ويدمر ويقصي في رعونة انتقامية مفرطة، لم تدع فرصةً لوجود الصوت الآخر، بل أن مجموعة الأصوات الأكثر تعقلًا، والأقل شراسة في المنظومة الجديدة، تحوّلت، بعد وقت قصير، إلى مجموعة من الأعداء والخصوم، أو بالحد الأدنى اتهمت بأنها طابور خامس يشكّل خطرًا على الحكم الجديد، فتمت تصفية هذه الأصوات، واحدًا وراء الآخر، ثم مطاردتها، حتى استقرّت في المنفى، والنموذجان الأكثر وضوحًا هنا: نائب رئيس السلطة التي شكلها قائد الانقلاب، محمد البرادعي، والمستشار العلمي لرئيس السلطة الجديدة، عصام حجّي.
أما الخصوم الواضحون في رفضهم الانقلاب من حيث المبدأ فقد تمت تصفيتهم بأعمال القتل المباشر، كما في مذابح رابعة وأخواتها، وبأحكام الإعدام الجماعية التي وضعت مصر في مقدّمة قائمة الدول الأكثر إصدارًا لأحكام الإعدام ضد معارضي النظام السياسي.
تلك هي صورة مصر، من بعد، وكما يراها العالم، وتراها إثيوبيا بالطبع، ويتعامى عنها عبد الفتاح السيسي، وهو يزرع كل يوم الألغام في تربة المستقبل المصري، على نحو ينذر بأنه في اللحظة التي سينتهي فيها، ستكون مصر مثل قطعة قطن مبلّلة بمواد كيميائية سريعة التفاعل، تنتظر شرارة واحدة لكي تصنع حريقًا مروّعًا يأخذ في طريقه كل شيء.
في هذه اللحظة، تنشغل إثيوبيا باستكمال حلم قومي حقيقي لها، يتمثّل في استكمال بناء سدودها على النيل، وتعيش أجواء انتخاباتٍ عامة، تملك المعارضة فيها حرية اختيار قرار المقاطعة، من دون أن تقتل أو تباد، أو تُتهم بالخيانة والعمالة، فيما الحلم القومي المصري في الداخل هو مواصلة أعمال الانتقام والاستئصال بحق المعارضين. وفي الخارج، هو تسويق وترويج أوهام عن القدرة المطلقة على هدم سدود إثيوبيا، واللهو على دقّات طبول حرب، لا تجد دليلًا عليها إلا في صفحات التواصل الاجتماعي.
أضف تعليقك