كتب أحد الإخوة مقالاً بعنوان: "تبييض السجون"، وقال إنه استلهم عبارة تبييض السجون من بعض القيادات الفلسطينية العسكرية والسياسية، وإنهم لم يغفلوا هذا الواجب لتحرير إخوانهم وأخواتهم؛ لأنه من وجهة نظر الكاتب أن تحرير الإنسان يسبق تحرير البنيان، وأن هؤلاء القادة لايتحدثون عن بعض المعتقلين، بل يتحدثون عن جميعهم .
ونحن هنا لا نختلف على أهمية تحرير إخواننا وأخواتنا من أيدى الظالمين، ونبذل قصارى جهدنا لإتمام ذلك بأي وسيلة، ونضع أيدينا في يد كل من يستطيع المساعدة في هذا الملف بالغ الأهمية.
ولكننا في هذا المقال المشار إليه.. نلاحظ الخلط بين مفهوم الأسير الذى يقع في قبضة أعداء الإسلام المحاربين الصرحاء للإسلام والمسلمين.. وبين المعتقلين من قِبَلِ الأنظمة الدكتاتورية العميلة فى بلادنا العربية والإسلامية .
فتخليص الأسير من أيدى الأعداء من أوجب الواجبات.
قال القرطبي رحمه الله فى تفسيره(2/26) : "قال علماؤنا : "فداء الأسرى واجب وإن لم يبق درهم واحد . قال بن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسرى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع، ويجب فك الأسرى من بيت المال، فإن لم يكن .. فهو فرض على المسلمين كافة، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى28/635) : "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".
أما الحالة التى نحن بصددها فتشبه إلى حد كبير اعتقال قريش لبعض ضعفاء المسلمين وتعذيبهم بل وقتلهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر على هؤلاء المستضعفين، ولا يملك لهم شيئاً سوى الدعاء ،كما في حالة آل ياسر سمية وعماروياسر .
وفى ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ولما اشتدّت ضراوة قريش بالمستضعفين، ذهب أحدهم "خبّاب بن الأرت" رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنجد به ، قال خباب: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" .
ماذا عساه يفعل محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك البائسين؟! إنه لا يستطيع أن يبسط حمايته على أحد منهم؛ لأنّه لا يملك من القوة ما يدفع به عن نفسه، وقد كان في صلاته يرمى عليه - وهو ساجد - بكرش الجزور أو رحم الشاة المذبوحة، وكانت الأنجاس تلقى أمام بيته صلى الله عليه وسلم، فلا يملك إلا الصبر .
والسؤال للأخ الكريم: ماذا فعلت حماس وقيادتها فى معتقليها فى سجون عباس وسلطة رام الله على مدار سنوات وقد حلقت لحاهم، ونكلت بهم، وأذاقتهم صنوف العذاب كما هو معلوم ولم نسمع أحداً اتهم حماس بالتقصير فى حق المعتقلين؟ .
هذا من جهة .. ومن جهة أخرى ماذا فعلت حماس وماعساها أن تفعل بمعتقليها فى سجون محمد بن سلمان وهم من قيادات الحركة؟ ولم يخرج الأمر عن مناشدات وتذكير بحق الأخوة وعدم التدخل فى شئون الآخرين، إلى ما هنالك من المطالبات !!
فحماس فى تعاملها مع السلطة الفلسطينية والسعودية لم تخرج عن واحد من الخيارات الثلاثة التى طرحها الكاتب فضلاً عن أن وضع حماس يختلف عن الوضع فى مصر والكل يعم ذلك دون الدخول فى تفاصيل وبالتالى لايقاس على وضع حماس !!
وبم يفسر لنا الكاتب موقف أصحاب الأخدود الذين أُلقي بهم فيه وانتهت قصتهم بذلك؟ .
لكن .. ليعلم الكاتب .. دائماً ما تكون أوقـات البـلاء الصعبة تحتاج إلى بصيرة ويقين وحسن ظنٍّ بالله تعالى؛ فلو كانـت نظرتنا مقتصرة على الدنيا في أوقـات البلاء لضاع الدين وضاع كل شيء، فإن الفصل القصير في القصة انتهى في الدنيا ومات أصحاب الأخدود، لكن ماذا عن الفصل الأطول والأهم؟ ماذا عن تكملة القصة؟ ماذا عن الشهود الذين شهدوا بالحادثة؟ ماذا عن حساب الله للطائفتين أهل الحق وأهل الباطل؟
فأهل الباطل يتفننون في فتنة الناس، يبتكرون فتنة خاصة للرجال، وفتنة خاصة للنساء، وفتنة خاصة حتى للأطفال، ولا يكتفون بفتنة أهل الإيمان عامةً، بل يجتهدون كل الاجتهاد في كل ذلك، والفوز الكبير : هو الثبـات وقت الفتنة، رغم أن النهاية في الدنيـا قد تظهر لنا أنها خسارة .. ولكن عند أهل البصيرة واليقين.. أنهم لم ينهزموا بل فازوا فوزاً كبيراً .
والسؤال للكاتب : هل فعلاً بلال - رضي الله عنه - ورده على المشركين وهو لم يكن يملك أي نوع من القوة تجابه قوة من يعذبونه ، ومع ذلك كان يقول لهم : أحد أحد .. كان منهزماً أو منسحقاً ؟
وفى ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فى فقه السيرة :
"ومن هؤلاء (بلال بن رباح) ، كان سيده أمية بن خلف إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يقلّبه على الرمال الملتهبة ظهراً لبطن، ويأمر بالصخرة الجسيمة فتلقى على صدره، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فما يزيد بلال عن ترديد : أحد أحد .
وإني لأعجب من قول الكاتب، بل كاد شعر رأسى يقف من قوله بأن اعتبار الصبر أحد وسائل التحرير كذب وتدليس !!
والحقيقة أن الكذب والتدليس هنا هو سوق الأدلة الشرعية والاستشهاد بها فى غير موضعها وإسقاطها اسقاطات غير محايدة على الأقل.
كما اعتبر الكاتب أن الصبر بلا عمل ناجع تواكُلٌ لا علاقة له بالتوكّل ، وخذلان لا علاقة له بالمقاومة، وقعود لا علاقة له بالنفير ، وخيانة لا تمت للأمانة بِصِلَةٍ ،ومعصية لا علاقة لها بالطاعة
وهنا نقول للكاتب: بم تفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم لآل ياسر: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة؟
وقوله لخباب بن الأرت رضي الله عنه : ولكنكم تستعجلون ؟
هل كان هذا صبرا بلا عمل أم ماذا؟
ألم يكن هذا نصح بالصبر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي من ربه سبحانه وتعالى؟؟
أم أن الكاتب يعتبر أن دعوة المعذبين المستضعفين للصبر مجرد تواكل وخذلان– نعوذ بالله من الخذلان!!
ولم يكتف الكاتب بهذا بل يقول: فالصبر السلبي نوع من التخدير وليس نوعاً من التعبد والمدافعة.
وكأن الكاتب لم يقرأ عن سير الأئمة الأعلام، وماتعرضوا له من محن على أيدى حكام وأمراء ظالمين، ولكل إمام منهم محنة معروفة ومشهورة فى التاريخ، بدءًا من الإمام مالك مع بنى أمية، و إبى حنيفة مع الخليفة المنصور والشافعى مع الرشيد، والإمام أحمد مع المأمون والمعتصم، وأخيراً شيخ الإسلام ابن تيمية الذى سجن سبع مرات لمدة خمسة أعوام، ومات مسجونا رحمه الله فى محبسه يوم الإثنين 20 ذي القعدة سنة 728 وكان له تلاميذ بالألاف ولم يقل أحد منهم أنهم فرطوا فى انقاذه من أيدى الظالمين .
ونقول للكاتب: ليس هناك صبر سلبي كما تزعم، هناك جهود تبذل فى شتى الملفات .. فى ملف الإعلام الذى قَضَّ مضاجع النظام باعتراف وزير خارجية الانقلاب الذي قال : الإخــوان تمتلك آلة إعلامية نافذة .
لأنها نجحت فى كشف فضائح النظام .
وكذلك الملف الحقوقي، وملف نشر الوعى بين الشعب ليدرك حقيقة المعركة، وأنها ليست بين العسكر والإخوان كما يحلو للبعض أن يكيفها هكذا .
ولا أدري كيف يجهل الكاتب أن قوى الشر العالمية والإقليمية والمحلية تدعم هذا النظام المجرم للقضاء على الإسلام السياسي حسب زعمهم ، وتمده بالمال وأدوات القمع ومنها ماهو مُحرَّم دولياً ، وغض الطرف عن كل الانتهاكات التى يمارسها بحق المعتقلين ؟ .
كما أننى أعجب من توجيه الكاتب التهم جزافاً بدون بينة واتهام الناس بالتقصير وطرح عموميات هي مجرد مزاعم وهو يعلم قبل غيره- حيث كان مسئولا عن الملف الإعلامى - بأن بذل الجهود والسعى لإنقاذ المعتقلين لم ولن تتوقف .
وكما يقولون: بئس مطية الرجل زعموا .
وبما أن الكاتب يعتبر أن الإفراج عن المعتقلين هو واجب الوقت وأنه يدعو كل الأحرار للعمل من أجل ذلك .. فإننا نقول له : على بركة الله . وأي جهد يصب فى ذلك نباركه وندعو للقائمين عليه بالتوفيق، مادام سيتم إنقاذ المعتقلين على اختلاف توجهاتهم .
فالمعركة اليوم ليست قضية معتقلين كما يظن البعض، القضية اليوم أكبر من ذلك بكثير .
فالمعركة مع الإسلام ذاته لمحاولة استئصال شأفته.
ومع ذلك تبقى قضية وقف أحكام الإعدامات وقضية إنقاذ المعتقلين على رأس سلم الأولويات، وهو مايتم فعلاً على أرض الواقع، لكن كل المحاولات تتحطم على صخرة عناد النظام الذى يريد أخذ كل شيء ولا يقدم أي شيء .
وحسبنا الله ونعم الوكيل في كل الظالمين .
أضف تعليقك