إحسان الفقيه
(أكل العيش مرّ)، (بنسعى على أكل العيش)، (بلاش تقطع عيشي)… عبارات لن تسمعها إلا من الأشقاء المصريين، الذين دأبوا على التعبير عن الدخول والأجور، بل والحياة بكلمة (العيش)، حتى أنه كان جزءاً من شعار ثورتهم في يناير 2011، إذ كانوا يرددون: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
عندما طلب مني بعض الأشقاء المصريين تناول خبر اعتزام الحكومة المصرية زيادة سعر رغيف الخبز، وجدت نفسي أهرع إلى بعض المراجع الخاصة بتاريخ مصر القديم، لأبحث عن شيء يتعلق بمكانة الخبز لدى المصريين، فوجدت أنه في بعض الفترات كانت الدولة تقدم الأجور للعمال في شكل مواد غذائية، كان أبرزها الخبز الذي يصرف من الصوامع أو المخازن الملكية، يوزع عليهم تبعا لدرجاتهم وأعبائهم الأسرية.
وإلى اليوم، يلعب الخبز دوراً مهماً في حياة المصريين، خاصة البسطاء الفقراء، فهو الأساس في غذائهم، والبقية له تبع، وإذا قدّر لك أن تزور مصر، وتتجول في أحيائها الشعبية، ستقع عيناك على مشهد معتاد، مشهد طابور للرجال وآخر للنساء يقفون بالساعات ليحصل كل منهم على حصته من الخبز المدعم من قبل الحكومة، يعود به كل منهم إلى منزله وهو يشعر بالأمان، فقد حاز الخبز في بيته، فطبقٌ من الفول، وقطعة من الجبن، وشيءٌ من بقايا عشاء الأمس، سوف يكون طعمتهم.
وإذا كنت مثلي لك ذكريات في أرض مصر وأيام عشتها مع أهلها، ستتعرف حتماً على "الكشري" الذي اشتهر به المصريون، ستصادف من يأكله منهم بوضعه في رغيف من الخبز بدلا من تناوله بالملعقة، لأنه في هذه الحالة سيشبع بطنه ويوفر عليه طلب المزيد من "الكشري".
إبان فترة حكم السادات، وتحديدا عام 1977، اشتعلت انتفاضة شعبية عرفت بانتفاضة الخبز، وسماها السادات "انتفاضة الحرامية"، بعد إعلان الحكومة زيادة أسعار سلع أساسية، أبرزها الخبز، حيث قررت تخفيض الدعم بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50%، فتراجعت الحكومة عن هذا القرار، وظل الخبز بالنسبة للحكومات المتعاقبة خطاً أحمر، لا مساس به، لأن الاقتراب منه يعني ثورة جياع. لكن في عهد السيسي اختفت الخطوط الحمر، لم يعد هناك سوى الأخضر، إذ كل القرارات التي يتخذها النظام تمر ولو على رقاب الشعب، فالزعيم الملهم تتفتق عبقريته الإدارية بغتة عن رؤية جديدة لضرورة زيادة سعر الخبز. الحديث عن زيادة سعر الخبز لا يمثل عند كثير من القراء المصريين وغير المصريين شيئاً ذا بال، بل كثير منهم لا يأكلون الخبز المدعم أصلا، ولا يُعد شراؤهم الخبز الحر مؤثرا في نفقاتهم، لكن الأمر يتعلق بشريحة تمثل تقريبا ثلث الشعب المصري، أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، ويمثل الخبز لهم أحد أبرز مقومات الحياة بعد الماء. هؤلاء كانوا قد اطمأنوا لتأكيدات السيسي في حملته الانتخابية قبل توليه الحكم، على أنه لا مساس بالدعم، وأنه قبل أن تمتد يده إلى رفعه، لا بد وأن يغني الشعب المصري أولا، لكن الرجل ابتلع كلامه، ووضع خطة لرفع الدعم تدريجيا في زمن يُعد في حياة المصريين لمحة بصر، فاعتادوا أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم غمّاً كل بضعة أشهر عندما يقابلون زيادة في فاتورة تحصيل الكهرباء بسبب رفع الدعم، إضافة إلى الأسعار التي تصعد بقوة الصاروخ في كل ما يباع ويشترى، لكنهم رغم ذلك كانوا مطمئنين إلى أن الخبز باق كما هو، حتى بعد أن قللت الحكومة وزن الرغيف، فطالما أن الخبز مُدعّم فكل شيء على ما يرام، على قولة المصريين (أهي ماشيه).
البسطاء وحدهم يدفعون ثمن سياسات النظام المصري الجائرة، وحدهم من يحملهم المسئولية عن تردي الوضع الاقتصادي، وكأنهم عالة على بلادهم التي يدفعون فيها أكثر مما يقبضون، ويزرعون فيها أكثر مما يحصدون. لم يجد النظام المصري إجراءً ينعش به الميزانية سوى محاربة البسطاء في الخبز، بينما ترك المتهربين من دفع الضرائب من تماسيح رجال الأعمال يرتعون، ولم يتوقف لحظة عند مظاهر البذخ والإنفاق الحكومي على التفاهات. إنه شعب ظلم أغنياؤه فقراءه، نعم ظلموا الفقراء بصمتهم عن الإجراءات التي لا يتأثرون بها، وتؤثر في تلك الشريحة الفقيرة فحسب، أما الطبقة المتوسطة، فقد اندثرت في هذا العهد ولم يعد لها وجود.
أزمة تلو الأخرى تدهم الشعب المصري المطحون، الذي تمارس عليه سياسة إلهاء ممنهجة، فبينما هو مستغرق في الخوف والجدل حول التهديد الوجودي المتمثل في أزمة مياه السد الإثيوبي، إذ بالنظام يغرقه في التفكير في أزمة الخبز، وهكذا مصر.
ذكر الجاحظ في كتاب "الحيوان"، أن رجلا من الشام كان مع الحجاج بن يوسف، يحضر طعامه ويأكل معه، فكتب إلى أهله يخبرهم بما هو فيه من الخصب، وأنه قد ازداد سمنة من فرط النعيم، فكتبت إليه امرأته:
أتهدي لي القرطاس والخبز حاجتي … وأنت على باب الأمير بطين؟
في خضم هذه الأزمة ظهر الكثيرون من هذه الشاكلة التي ينسيها الشبع جوع الآخرين وأزماتهم، ولو كانوا أولي رحمٍ وقربى، ولكن ظهورهم في أزمة الخبز يثير الضحك حتى البكاء، إذ انطلقت ألسنة وأقلام المتزلفين والمطبلين ووسائل إعلام موالية للنظام، لتجعل من هذه الكارثة إنجازا عظيما لطالما كان المصريون متلهفين إليه.
أحد الإعلاميين ورئيس إدارة إحدى المجلات يعتبر القرار إجراءً إصلاحيا فيعلق بقوله "سلوك رجل مُصلح". وتنشر صحيفة تسمي نفسها مستقلة – وهي مبحرة في التبعية بلا حدود – خبراً تقول في عنوانه: "أول رد من الفلاحين بعد إعلان السيسي بضرورة رفع سعر الرغيف: السيسي استجاب لنا"، وهكذا ترى الدجل في أعتى صوره، فالإعلام يصور القرار على أنه استجابة للمصريين، لا تسل كيف، ولكن هذا ما حدث. أطرف التعليقات، كان ما نشرته صحيفة مصرية على لسان نقيب الفلاحين بعد الإعلان عن زيادة رغيف الخبز، حيث قال: “السيسي انتصر للغلابة، وردّ الاعتبار والكرامة لرغيف الخبز المصري”. ليس هذا بغريب على بلد كانت مطاراته تُضرب في مرابضها إبان النكسة، بينما إعلامه يتحدث عن إسقاط الجيش المصري 250 طائرة إسرائيلية، وموافقة أم كلثوم على إقامة حفلتها المقبلة في تل أبيب بعد أسبوع. عندما تعلم من تاريخ مصر القديم أن الملكة حتشبسوت شرعنت ولايتها بتصاوير على جدران معبدها تبين أن أمها حملت بها من الإله آمون، وعندما تعلم أن تحتمس الثالث كان فاقدا لشرعية الحكم بسبب أن أمه كانت زوجة ثانية فاخترع بمساعدة الكهنة قصة توقُّفِ موكب آمون أمام الطفل تحتمس كنوع من الاختيار الإلهي، وعندما تعلم أن أمنحتب الثالث أرجع نسبَهُ للآلهة تعويضا لفقدان شرعيته بسبب أن أمه لم تكن مصرية، حينها لن تتعجب عندما تتم شرعنة القرارات السياسية على لسان كهنة النظام، أو عمائم النظام الحالي، فمن أكثر ما جذب انتباهي لدى متابعتي لردود الأفعال في مصر حول زيادة سعر الخبز، تصريح عجيب لأحد المشايخ المؤيدين للقرار، فلم أدر إلى أي نص أو قاعدة فقهية لجأ هذا الشيخ في تصريحه، فقد خرج أستاذ للشريعة في جامعة الأزهر ليصف قرار زيادة سعر الخبز بأنه صائب وموضوعي، وأنه آن الأوان لتصحيح مسار إهدار أموال الشعب، ومضى بالقول إن هذا الدعم يذهب لإطعام الدواجن والحيوانات، ويتم استخدامه في تصنيع مشروب محرم، إذن المصلحة التي اقتضت من الشيخ إصدار هذه الفتوى هي منع إهدار الأموال، خبز الفقراء وحياتهم صار إهدارا للمال، وتلك عجيبة الدهر.
المسألة لا تتعلق بسلعة استراتيجية يزاد سعرها، إنما يتعلق بالحدّ الأدنى من توفير الأمن الغذائي المتمثل في الخبز، نتحدث عن قاعدة هرم ماسلو الذي يمثل الحاجات البشرية، إنه شيء جدير بالسخرية أن صار رغيف الخبز قضية شعب، لكن هكذا مصر في عهد السيسي، وربما أتى يوم يحاكي القوم مقولة بطلة رواية "مباريات الجوع" للكاتبة سوزان كولنز إذ تقول: "يتعين علينا الاحتفاظ بهذا الرغيف جيد الصنع للمناسبات الخاصة". أما الحديث عن إمكانية حدوث ثورة على النظام بسبب الأزمة، كما يأمل البعض، فهذا من وجهة نظري محض وهم، فالرجل ليس متهورا وعشوائيا كما يظنون، هناك أجهزته التي تقيس الرأي العام وتتعرف على اتجاهاته، هو يعلم يقينا أن أحدا لن يحرك ساكنا، بعد أن كبّل الشعب ووضع مؤسسات الدولة الصلبة في جيب سترته، وأغلق عليها، وقسّم الشعب إلى فئات يتسلط بعضها على بعض نيابة عنه. أعلم أنني لم أطرح حلا عمليا لمواجهة المصريين لتلك الأزمة، لأنني بالفعل لن أطرح جديداً، لكنني أحببت مشاركة الأشقاء في مصر محنتهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك