د. أشرف دوابه
في زيارة لمدينة السادات بمحافظة المنوفية الأسبوع الماضي أعلن رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي، أن الوقت حان لزيادة سعر رغيف الخبز، مضيفا: "مش معقولة أدي 20 رغيف بثمن سيجارة.. فيه ناس ممكن تقولي بلاش تتكلم في القصص دي، وخلي الحكومة هي اللي تقول، لأ، مقدرش أخلي سعر رغيف العيش بعملة الناس متعرفهاش، مفيش حاجة اسمها صاغ".
وبعد ذلك بساعات قليلة اقترح مجتمعون في الاتحاد العام للغرف التجارية تسعير رغيف الخبز المدعم بـ20 قرشا بدلا من خمسة قروش، بنسبة ارتفاع 300 في المئة، معلنين أن تحريك سعر رغيف الخبز المدعم لن يكون له أي أثر على سعر الخبز السياحي الذي يباع بخمسين قرشا، وجنيه للمستهلكين، ولن يؤثر أيضاً على أسعار الوجبات السريعة بغض النظر عن حجم المنشأة التي تقدم هذه الوجبات سواء على عربات الفول أو بالمطاعم السياحية.
ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل خرجت مزيد من الأبواق المأجورة لتجعل من هذا القرار نصرا مبينا وعدلا كان مفقودا وغلقا لأبواب الحرام، حتى علق حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، على ذلك قائلاً: "الرئيس السيسي رد الاعتبار والكرامة للرغيف بعدما أهدر حقه، المفروض نشيل الرغيف على رأسنا".
وعجبا لمثل هذا الذي يتكلم عن رد الاعتبار والكرامة للرغيف دون أن ينطق بكلمة واحدة عن رد الاعتبار والكرامة للمواطن المصري؛ الذي يصل الليل بالنهار ليعيش ويقتات على هذا الرغيف بلا اعتبار له ولا زيادة لدخله ولا كرامة لذاته، والفقر يطوقه من كل جانب.. وقد ذكرني حديث نقيب الفلاحين هذا - الذي وصل لتملق فاق العقل البشري في التبرير اللا أخلاقي - بما حدث في مصر من قبل في عهد حاكمها كافور الإخشيدي، حيث أصابها زلزال فأنشد شاعر له قائلا:
ما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
كما علق أحمد كريمة أستاذ الفقه بجامعة الأزهر على كلام السيسي قائلا: "إن رفع السعر قرار صائب وموضوعي"، مبررا ذلك بأن سعر الخبز الحالي لا مثيل له في العالم، وأن الخبز الزائد عن الاحتياج يُصنع منه مشروب محرّم في قرى الريف والمناطق الشعبية، وأن تصرفات الحاكم منوطة بالمصلحة، وحيثما كانت المصلحة كان شرع الله".
وفتوى كريمة خليط من اللا معقول، فلم يستدل بكلمة واحدة من كتاب الله وسنة رسوله. فإذا كان سعر الخبز لا مثيل له في العالم فإن نظام الحكم في مصر من أسوأ النظم في العالم في ضرب الحماية الاجتماعية في مقتل، وسجن أبناء الوطن، وتعليقهم على أعواد المشانق؟ وهل في العالم الحر مواطن دخله لا يكفيه لشراء خبز؟! وهل في العالم الحر تربح الدولة على حساب مواطنيها، وتسلم جل مرافقها للعسكر؟! وهل في العالم الحر يؤخذ من دعم الخبر لدعم البسكويت المنتج من قبل العسكر باسم توفير التغذية للطلاب؟!
ووفق منطق كريمة، فإن كل شيء حلال يمكن استخدامه في حرام يجب على الدولة منعه.. ثم أي مصلحة يتكلم عنها كريمة والسيسي يطحن الفقراء ويهدم المساجد ويبني الكنائس؟.. فما أقبح أن يستخدم الدين لتبرير أفعال التسلط لحاكم بلغ من الظلم منتهاه.
إن السيسي الذي يرى أن الوقت حان لزيادة سعر رغيف الخبز، قائلا: "مش معقولة أدي 20 رغيف بثمن سيجارة"، أولى به أن يعي أن القوم لا يجدون لا ثمن رغيف الخبز ولا ثمن السيجارة، فقد فعل بهم الفقر فعلته وفتك بهم فتكا، حتى تعدت نسبة الفقر الحقيقية في مصر أكثر من 60 في المائة، والناس باتوا يكلمون أنفسهم من ضيق العيش ونكد الحياة، حتى انتشرت جرائم القتل بين الأزواج، في الوقت الذي يبني فيه السيسي مدنا للأثرياء، ومزيدا من القصور له، وحمامات السباحة، التي يستحي رغيف الخبز أمامها.
وكان الأولى أن يقولها بصراحة أنه ينفذ تعليمات صندوق النقد الدولي للمزيد من القروض، وهو في ذلك سن قانونا لفصل الموظفين بالشبهة ظلما وعدوانا، وقسّم المجتمع شيعا وأحزابا، ثم جاء لرغيف الخبز ليقضي على آخر معاقل الفقراء، ضاربا عرض الحائط بالحماية الاجتماعية، ومستكبرا على جموع الشعب الذي أرهقته الدبابة وأخافته السجون والقتل. ففعل السيسي ما لم يجرؤ على فعله رئيس سابق، حتى السادات حينما رفع سعر الرغيف في عام 1977م بنسبة 50 في المائة خرجت انتفاضة الخبز التي لم تمكنه من تحقيق ما يريد.
إن دعم الخبز في الموازنة العامة الحالية يقدر بنحو 45 مليار جنيه، وهو ما يمثل 4.5 في المائة من حصيلة الضرائب التي تقدر بمبلغ 983 مليار جنيه، فلماذا هذا التجني على هذا الدعم في ظل هذا الإيراد الضريبي المتنامي بصورة فاقت المعقول ولا يُرى لها أثر إيجابي في حياة المواطنين؟!.. وهل يعقل أن يكون السعر الفعلي لرغيف الخبز المدعّم 60 قرشا، في حين سعر الرغيف السياحي الأفضل جودة 50 قرشا؟! ولمصلحة من ضرب الحماية الاجتماعية في مقتل وفتح الباب لمزيد من الفقر والاحتقان والجرائم؟!
إن هذه الأحداث الجسام تعيد الذاكرة إلى عهد عرف الجميع قدره الآن، يوم أن تولى الدكتور باسم عودة - فك الله أسره - وزارة التموين، ورغم قصر مدة توليه الوزارة إلا أن إرادته الصادقة وعمله الدؤوب جعل لرغيف الخبز مكانة تليق بمكانة المواطن..
ورحم الله الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي كان في مجلسه، وجاءته جاريته تقول: إن الدقيق نفد، فقال لها: "قاتلك الله، لقد أضعت من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه". وصدق الإمام أبو حنيفة حينما قال: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق".. فماذا بقي للمصريين بعد هذا العبث والجرأة على حياة الناس في منعهم من حق مكفول لهم من أموال الضرائب وليس منا تعطيه أو تمنعه الحكومة عنهم؟!.. وماذا بقي للمصريين بعد أن أوشك النيل على الضياع وضاع معه رغيف الخبز الذي بوضعه الحالي لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف مع تضاعف سعره؟!
اللهم لطفا بمصر وأهلها.
أضف تعليقك