إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة؛ فيجب أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة النبوية ككل احتفالٍ بذكرى من الذكريات الأرضية أو بعملٍ من أعمال الناس، كما يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابع خاص، وأن يكون لهذا الاجتماع جوٌّ خاص، وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بهذه المناسبة الكريمة، ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا وقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ الرفيع، مستوى الهجرة النبوية الشريفة.
الواقع الفعلي للسيرة
إنَّ سيرةَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى ولا أن تكون احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن تكون حياةً تُعاد، وأن يكون واقعًا يُحقق.. إنما جاء الإسلام ليكون واقعًا حيًّا في تاريخ المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام لتكون فيها إلى الأبد قدوةً وأسوةً لمَن يتبعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
كيف نحتفل بالهجرة؟
يجب إذا حاولنا أن نحتفل بالهجرة أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى أيام الهجرة.. أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى أيام الهجرة.
فهذا الإسلام جاهزٌ وقديرٌ على أن يحقق ما حققه مرةً في تاريخ البشرية، إنه لم يجئ لفترةٍ ولم يجئ لمكان، لقد جاء للزمان كله.. وجاء للأرض كلها.. وجاء للبشرية كلها.
فإذا شئنا نحن اليوم أن نحتفل بيومٍ من أيامه، فلا يجوز أن نقرب هذا الاحتفال إلا إذا أعددنا أنفسنا كما يُعد المؤمن نفسه للصلاة بالوضوء، وكما يتهيأ بروحه ليقف بين يدي الله عز وجل.. يجب أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير.
ومعاني هذا اليوم لا تحصيها ساعة، ولا تحصيها خطبة، ولا يحصيها كتاب، فهي كتاب مفتوح للبشرية منذ 1400 عام، إنما نحاول أن نلخص شيئًا.. نحاول أن نُقلب صفحاتٍ قلائل من هذا الكتاب الضخم الذي لم تنته صفحاته على مدى 1400 عام، ولن تنتهي صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾ (الكهف).
الصفحة الأولى: التجرد
الصفحة الأولى من صفحات هذا اليوم المجيد في تلك الكلمات الخالدة للنبي- صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمات التي فاه بها لسان محمد- صلى الله عليه وسلم- لقريشٍ بعظمائها وساداتها.. "يا بن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا"، فجاء الرد الحاسم:"والله يا عمِّ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
فإذا بتلك الكلمات القلائل تخط أول صفحة من الصفحاتِ المشرقة الكريمة في تاريخ الدعوة.. بهذه الكلمات نبدأ تلك الصفحات الكريمة، لم يكن محمد- صلى الله عليه وسلم- مضطرًا أن يهاجر أو أن يغترب لو أنه أخذ المال والجاه.. ولكن محمد- صلى الله عليه وسلم- كان يريد ما هو أعظم من أن تضع الشمس في يمينه والقمر في يساره، وما هو أعظم من السماوات والأرض، ما هو أعظم من النجوم والكواكب.
كان يريد عقيدةً تُنتشر، وفكرةً تسود، ومجتمعًا يتكون، وإسلامًا يقوم على وجهِ الأرض، يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم.
أضف تعليقك