ليس السؤال من أين لقيس سعيّد بهذه الجرأة على حرق الثورة التونسية، التي كنا نعدها نقطة الضوء الوحيدة في بحر ظلمات الربيع العربي المغدور، وإنما السؤال هو: من أين لهذه الثورة بهذه القابلية للسكوت على عربدة شخصٍ استغلها واستثمر فيها وتسلقها، حتى بلغ ما يشتهيه من حدائق الدكتاتورية والتسلط؟
ما فعله قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز الماضي كان نسفًا لكل القيم الديمقراطية التي جاءت بها ثورة الياسمين.. أما ما أقدم عليه، يوم أول من أمس، من تحويل الاستثنائي إلى حالة مستقرة ودائمة، فهو الإعلان، بمنتهى الوضوح، أن ثورة لم تقم، ولم تغير، ولم تفرض واقعًا جديدًا في تونس.
كما أن السؤال في هذه اللحظة الدرامية المثيرة، أيضًا، ليس هو: إلى أين سيصل قيس سعيّد أبعد مما وصل إليه، بل: متى يظهر الجنرال الذي يقدّم نفسه للتونسيين في هيئة المخلص، الذي جاء لإنقاذ الأمة من عربدة السياسيين واشتباكاتهم، التي تُنذر بأخطار وخيمة على البلاد والعباد، ويقول لهم إنه قرّر تولي السلطة، لأن الشعب لم يجد من يحنو عليه؟.
منذ اليوم الأول لقرارات قيس سعيّد الانقلابية بإلغاء الحياة البرلمانية وحل الحكومة، قلت إن الجل، من حيث القدرات الشخصية، لا يستطيع القيام بانقلابٍ على مستوى عائلته الصغيرة. ومن حيث الجماهيرية هو أكثر ضآلة من أن يقفز بتونس تلك القفزة المجنونة في عمق محيط الثورات المضادّة، وبالتالي هو ليس أكثر من واجهةٍ مدنيةٍ لانقلابٍ عسكري صامت، لم يعلن عن نفسه بشكل كامل، مكتفيًا بتأمين انقلاب الرئيس المدني المنتخب على الدستور، منصّبًا نفسه فرعونًا يشبه تلك المومياوات التي زارها في متحفها بالقاهرة، مدعوّا من الانقلابي الأول في المنطقة، والذي كان رأس الحربة في مشروع الحرب على الربيع العربي.
في حالة قيس سعيّد، وبما أنه لم ينحدر من قمة مؤسسة عسكرية، تتحيّن الفرصة لاستعادة الهيمنة على السياسة، فلن تسعفه الظروف لكي يبني الكباري والكتل الخرسانية بيد، وباليد الأخرى يهدم جسورًا إنسانية وينسف قناطر اجتماعية، فذلك الدور محجوز للجنرال الذي لم يظهر بعد.
على أن ذلك كله من الممكن أن يكون حرثًا في البحر، وينهار كالرمال الناعمة، لو أن نخبة سياسية وجماعة وطنية تونسية استوعبت الدرس المصري، ودقّقت النظر في مآلات مجموعات الانتهازية السياسية التي اصطفت مع الجنرالات لهدم البناء السياسي برمته، تحت مزاعم الخوف على مستقبل الديمقراطية والحياة المدنية من فصيل الإسلام السياسي الذي وصل إلى الحكم، وفق مبادئ وقواعد أقرّت بها الأطراف كلها.
يمكن لأي سياسي أو مواطن تونسي أن يلقي نظرة على الحالة المصرية، وأخرى على الحالة المغربية، حيث ثبت، في الحالة الثانية، أن بالإمكان إزاحة الطرف المنتمي للإسلام السياسي بطرق أخرى غير الانقلابات الدستورية والعسكرية، من دون حرق الحياة السياسية كلها، كما جرى في الحالة المصرية التي سلّمت الثورة لأعدائها، وأجهزت على التجربة الديمقراطية في بداياتها.
الآن في تونس هناك شخص يسلك وكأنه يمارس بلطجة سياسية، معلنًا: أنا الدستور والنظام والحكومة والقضاء والقدر .. أنا الثورة والثورة المضادة .. أنا الانقلاب بيدي الجيش وبالأخرى الشرطة، والقضاء أحركه بإصبعي، لكنه، في نهاية المطاف، ليس إلا ممثلًا مغمورًا يؤدّي دور البطولة في دراما تقليدية معروفة نهايتها.
أمام مأزق خطير من هذا النوع، حريٌّ بالقوى السياسية التي تزعم الخشية على الديمقراطية والمدنية من الإسلام السياسي أن تسأل مثيلتها في مصر عن أحوالها الآن بعد ثماني سنوات مظلمة، بدأت باستدعاء الجنرالات والثورة المضادّة لإسقاط رئيسٍ أصدر إعلانا دستوريًا بإعفاء نائب عام النظام الذي أسقطته الثورة، ثم تراجع عن هذا الإعلان، بعد أن رفضه كثيرون منا ، على الرغم من أنه لم يكن هناك برلمان أو دستور في ذلك الوقت.
ما فعله قيس سعيّد، لا يمكن مقارنته بما حاول أن يفعله الرئيس محمد مرسي في 2012 حين استخدم سلطاته في إصدار إعلان دستوري مؤقت، فالأخير كان على رأس نظام بلا مجلس تشريعي، ولم يقرّ دستوره بعد، فكان مضطرًا للجوء لإجراءات تشريعية استثنائية ووقتية، تم النظر إليها باعتبارها استبدادًا بالسلطة ودكتاتورية في الحكم تنزع الشرعية عن صاحبها.
أما قيس سعيّد فقد أسقط المجلس التشريعي، وألغى الحكومة، وتغوّل على القضاء، ولم نسمع صوتًا للتيارات السياسية العربية التي أعلنت الحرب ضد الشهيد محمد مرسي، وهي تصرخ وا انقلاباه.
أضف تعليقك