بقلم.. وائل قنديل
لخّص الشعب السوداني الثائر الحكاية كلها بتلك اللافتة التي أعلنت رفضها ما أسمتها "تطبيقات السيسي" وحكم الإمارات.
بفطرته وخفّة ظله، أدرك جمهور الثورة السودانية أن ما يجري في بلادهم هو عملية استكمال لبناء ذلك الجدار العازل بين الشعوب العربية وأحلام التغيير والانعتاق من ذلك المخطّط الإقليمي الهادف إلى تسليم المنطقة كلها إلى المشروع الصهيوني، الذي يجري تنفيذه باستخدام الإمارات.
على أن ما يسترعي الانتباه أكثر هنا هي عبقرية التقاط المصطلح "تطبيقات السيسي" الذي يعيد التأكيد على تحوّل المأساة المصرية الممتدّة منذ العام 2013 إلى"وصفة" أو براءة اختراع معتمدة، يمكن تعريفها بأنها "دليل العسكري الطامع في الانفراد بسلطة استبدادية إلى النجاح في الانقلاب"، وهي تلك الوصفة التي تطارد الشعوب العربية مثل كابوس، يطارد أحلامها في حياة محترمة، تمارس فيها حرّيتها وتجد إنسانيتها، وما تشتمل عليه من حقوقٍ أساسية وبسيطة.
يتحرّك كابوس التجربة المصرية في السودان، كما في تونس، مدشّنًا تطبيقًا جديدًا لتصدير الثورات المضادّة والانقلابات، يزيح حكاية الثورة الرومانية المضادّة من صدارة أرشيف الانقلابات، ويحتلّ مكانه، لتصبح الحكاية المصرية نموذجًا على مستوى العالم كله، لطريقة قتل ثورات الشعوب وإجهاض أحلامها في التغيير.
يتصادف أن يستقبل السيسي في القاهرة رئيس رومانيا قبل ساعاتٍ من ظهور اللافتة السودانية، وكأننا بصدد عملية تسليم وتسلم لتطبيقات الثورات المضادّة، ليكون مقرّها القاهرة، ومنها تنطلق إلى مناطق أخرى.
في تونس، وبينما الشعب هناك يحاول الصمود أمام انقلاب الجنرال المدني، قيس سعيّد، والمقتبس فكرًة وإخراجًا وتنفيذًا من الحالة المصرية، تحضر صورة السيسي أيضًا، ويكون شعار الثائرين هو: حتى لا تستنسخ المأساة المصرية في تونس. .. بينما على الجانب الآخر، ينقل من قيس سعيّد، حرفيًا، من كتاب انقلاب السيسي، فيكون انفتاح على فكرة التطبيع، وامتثال لسطوة المال الإماراتي، وسعي إلى القطيعة مع قيم ثورة الياسمين الرائدة ومفرداتها في العام 2011، وتكون كذلك كراهية معلنة للربيع العربي.
قبل تونس، كان أنصار دونالد ترامب يستلهمون تجربة انقلاب السيسي وهم يحاولون نسف عملية الانتخابات الأميركية التي أظهرت نتائجها فوز المنافس جو بايدن. وفي تلك الليلة، شاهد العالم عبر شاشات التلفزة الدولية لقطات منقولة حرفيًا من أرشيف المأساة المصرية، وكما سجلت وقتها: ما تراه في الولايات المتحدة هذه الساعات مأخوذ حرفيًا من سفر الثورات المضادّة، والانقلابات، في الدول التي عاشت في عتمة الاستبداد والطغيان، عقودًا طويلة، ثم خرجت إلى النور فجأة، وإنْ لم يستخدم أدواتها كاملة.
تكاد تكون بصدد عملية استرجاع "فلاش باك" لما جرى في مصر منذ منتصف العام 2012 وحتى صيف العام الذي يليه، حين جاء رئيسٌ منتخبٌ لا يعجب طبقة الإقطاعيين الثوريين، من وجهاء الحياة السياسية، الذين تهرّبوا من خوض الانتخابات، ثم بوغتوا بأن "فلاحًا ملتحيًا" قادمًا من جماعة الإخوان المسلمين قد فاز في السباق، فقرّروا هدم السيناريو كله، وإعادة كتابته من جديد، فصارت الديمقراطية التي طالما تغنّوا بها تتخذ تعريفاتٍ جديدةً على هواهم، مردّدين الترّهات ذاتها: الفارق بين الفائز والخاسر ليس كبيرًا.. الجماهير ليست كلها مؤهّلة لتعاطي الديمقراطية.
الشاهد أن انبعاثات التجربة الانقلابية المصرية أحدثت تغيراتٍ كارثيةً على مستوى العالم كله، ورفعت نسب التلوث في مناخ الديمقراطية، بحيث صار هناك من يغنّي للاستبداد والنكوص الديمقراطي، حتى وجدنا التاريخ يقف ساخرًا مما يراه في واشنطن، وهو يرى رئيس أميركا المهزوم يأخذها من تصدير قيم الديمقراطية إلى استيراد أفكار الانقلاب عليها وأدواته.
المدهش أن صناع الانقلاب وجمهوره في مصر يفاخرون ببضاعتهم التي يتعاطى معها العالم بوصفها مرضًا معديًا.
أضف تعليقك