بقلم: عبد الله الشافعي
لم يكن الله سبحانه وتعالى ليترك المظلومين والمقهورين والمجرَّدين من القوة المادية والمستضعفين من الرجال والنساء.. لم يكن الله ليتركَهم دون أن يُعطيَهم أسلحةً يواجهون بها هذا الظلم وهذا القهر الذي يعانون، فملَّكَهم الله أسلحةً فريدةً موصولةً معه سبحانه وتعالى مباشرةً، ومن هذه الأسلحة: الدعاء؛ ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن فقال له: "اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" (رواه البخاري).
فالدعاءُ سلاحٌ فريدٌ وقويٌّ يملكه المظلوم، فما إن يرفع المظلوم يديه إلى السماء إلا ويأتيه الردُّ من الله سبحانه وتعالى مباشرةً: "لأنصرنك ولو بعد حين"، فأي سلاحٍ هذا؟ وأي قوةٍ أعطاها الله سبحانه للمظلومين والمقهورين والمستضعفين؟! والله لو يعلم الظالمُ هذا السلاح بيد المظلوم لما ظلمه قط، ولما تجرَّأ على ذلك؛ فالدعاءُ طريقُ النجاةِ، وسُلَّم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين.. به تُستجلَب النعم وبمثله تُستدفع النقم.. ما أشدَّ حاجة العباد إليه!! وما أعظم ضرورتهم إليه!! لا يستغني عنه المسلم بحالٍ من الأحوال.
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدوُّ البلاء، يُدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه، وهو دليلٌ على التوكل على الله؛ وذلك لأن الداعي حال دعائه مستعينًا بالله مُفوِّضًا أمرَه إليه وحده دون سواه، كما أنه طاعةٌ لله عز وجل واستجابةٌ لأمره، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: من الآية 60).
وهو سلاحٌ قويٌّ يستخدمه المسلم في جلب الخير ودفع الضرّ.. قال صلى الله عليه وسلم: "من فُتِح له منكم بابُ الدعاء فُتحت له أبواب الرحمة، وما سُئل اللهُ شيئًا يُعطَى أحبَّ إليه من أن يُسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
وهو سلاحٌ استخدمه الأنبياء في أصعب المواقف، فها هو النبي- صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر عندما نظر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر استقبل القبلة ثم رفع يديه قائلاً: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض" فما زال يهتف بالدعاء مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه وقال: "يا نبي الله.. كفاك منشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك" (رواه مسلم)، وها هو نبي الله أيوب عليه السلام يستخدم سلاح الدعاء بعدما نزل به أنواع البلاء وانقطع عنه الناس ولم يبقَ أحد يحنو عليه سوى زوجته، وهو في ذلك كله صابرٌ محتسبٌ، فلما طال به البلاء دعا ربه قائلاً: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرّ﴾ (الأنبياء: 84، 83).
والدعاء سبب لتفريج الهموم، وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربَّه، ويعترف بعجزه، وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه، وهو سلاحُ المظلومين ومفزع الضعفاء المكسورين إذا انقطعت بهم الأسباب وأغلقت في وجوههم الأبواب.
إليه وحده نلجأ
طريق الدعوة مزدحم بالأحداث، مليء بالأحوال المتغيرة، مفعَمٌ بالآلام والآمال، فيه دعوةٌ وإرشادٌ، ومعالجةٌ للنفوس والعادات، فيه إعناتٌ وإيذاءٌ وفيه صبرٌ واحتسابٌ، فيه جهادٌ وتضحيةٌ، وفيه نصرٌ وهزيمةٌ، فيه فتنٌ وابتلاءاتٌ وفيه شرفٌ وعزةٌ، فيه حبٌّ وإيثارٌ، وفيه استشهادٌ وفداءٌ، فيه صراعٌ بين الحق والباطل، وفيه سيادةٌ وتمكينٌ لدين لله بإذن الله.. لهذا كله ولغيره نجد أن مَن يسلك طريق الدعوة حاجته ماسَّة إلى المناجاة، كما أن له فيها أسلوبه الخاص.
فمَن غير الله يلجأ إليه ليبثه شكواه وآلامه وما يعتمل في نفسه؟
مَن غير الله يفزع إليه في مراحل الطريق الموحشة القاسية؟
مَن غير الله يلجأ إليه ليؤمن روعه ويذهب خوفه؟
مَن غير الله يدعوه ليفرج كربه وهمه ويذهب حزنه؟
مَن غير الله يؤنس وحدته في ظلام زنزانته المغلقة؟
مَن غير الله يسأله أن يخفف ألم السياط وصنوف التعذيب الواقعة على جسده؟
مَن غير الله يلوذ به عندما يشتد به الحال من كيد الظالمين وبطشهم؟
مَن غير الله ينزل عليه السكينة ويملأ قلبه طمأنينةً وسط هذا الجو من الظلم والظلام؟
وكيف لا يلجأ إلى الله وهو لا يستطيع أن يخطو خطوةً على طريق الدعوة إلا بأمرٍ من الله وعونه؟
وكيف لا يلجأ إلى الله دائمًا وهو إذا وكله الله إلى نفسه طرفة عين ضلَّ أو زلَّ؟
وكيف لا يلجأ إلى الله وهو الفقير إلى الله والله هو الغني؟
وكيف لا يلجأ إلى الله وهو الضعيف والله هو القوي؟
وكيف لا يلجأ إلى الله وهو المذنب في حق الله والله هو الغفار التواب الرحيم؟
فما أشد حاجة مَن يسلك طريق الدعوة إلى أن ينظر الله إليه في جوف الليل نظرة رضاء وقبول!!
ما أشد حاجته إلى أن يفتح الله له أبواب رحمته، فلا فلاح ولا نجاح له إن أمسك الله عنه رحمته.
ما أشد حاجته إلى مناجاة ربه ليحظى بزاد الإيمان الذي يعينه على مشاق الطريق ومزالقه!!
ما أشد حاجة الأرواح عندما تظمأ إلى أن تجد الريّ في حسن صلتها بالأصل الذي نفخت منه في هذا الوعاء الطيني الفاني.
أضف تعليقك