ويواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية فيقول:
فكر واقعي
ومن خصائص الفكر العلمي الذي نريده للحركة الإسلامية في المرحلة القادمة أن يكون فكرا قائما على الواقع لا على الخيال، ولا على الأحلام .
الموازنة بين الطموح والإمكانات
ومن الواقعية التي تحتاج إلى تثبيتها في فكرنا: أن نوازن بين طموحنا وإمكاناتنا، بين ما نصبو إليه وما نقدر عليه، فلا نورط أنفسنا في أمور لم نعد لها العدة، ولم نهيء لها الوسائل اللازمة.
إن القرآن يجيز للمقاتل أن يفر من الزحف إذا كان (متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة).
ويرخص له في حالة الضعف أن ينسحب من المعركة إذا كان جيش العدو أكثر من ضعف جيش المسلمين (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين) (سورة الأنفال:66).
وفي معركة مؤتة كان جيش الروم أضعاف جيش المسلمين (كان جيش المسلمين ثلاثة آلاف وجيش الروم يقدر بنحو 150 ألفا).
وهذا ما جعل القائد العبقري خالد بن الوليد يخطط لانسحاب المسلمين بسلام ولا يغامر بهم في معركة تشبه الانتحار.
وبعد رجوعه مع أصحابه إلى المدينة استقبلهم المتحمسون من شباب المسلمين بالحصى يرمونهم به، واصفين إياهم بأنهم (الفرار)!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عنهم قائلا: بل هم الكرار إن شاء الله.
إن القائد الحكيم هو الذي يحرص على حياة جنوده، وهذا ما جعل عمر في أول الأمر يتهيب من غزو الروم قائلا للذين يحرضونه على ذلك: والله لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت!
والمسلم البصير هو الذي لا يورط نفسه فيما لا يستطيعه، والله تعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) (سورة التغابن:16).
وفي الحديث "لا يحل لمسلم أن يذل نفسه. قيل: يا رسول الله، وكيف يذل نفسه؟ قال: يحملها من البلاء ما لا يطيق".
ومن الخطأ الذي يمكن أن تقع فيه الحركة الإسلامية، استجابتها لعواطف العامة في اتخاذ القرارات المصيرية والمهمة.
ففي بعض البلاد قد يدفع الشارع المسلم بعض قادة الحركة إلى خوض المعركة السياسية بكل قوتهم وطاقتهم، قبل أن تنضج قدراتهم الفكرية والسياسية والفنية لمثل هذه المرحلة، وبذلك يحملون أنفسهم أكثر مما تطيق، وهذا من أسباب الإخفاق من غير شك.
وهذا قد تدفع إليه العجلة، وسوء تقدير العواقب، والمبالغة في تقويم قدرات الذات، والتقليل من إمكانات الغير.
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يأبى على أصحابه في مكة أن يبدءوا صداما مسلحا مع قوى الشرك، وإن آذوهم وعذبوهم، وكان يقول لهم: "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة".
حتى هيأ الله للرسول أرضا حرة، وقاعدة صلبة للانطلاق، فبدأ منها الجهاد والصدام، ونزل في ذلك قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) (سورة الحج: 39).
إهالة التراب على المشكلات التاريخية
نريد من الفكر الجديد أن يهيل التراب على المشكلات التاريخية التي شغلت الفكر الإسلامي في وقت من الأوقات، وبددت طاقته في غير طائل، مشكلة الذات والصفات، هل الصفات عين الذات أو غيرها؟ أوهي لا عين ولا غير؟ مشكلة خلق القرآن ـ وما ترتب عليها من محنة لأئمة الإسلام، المبالغة في الكلام حول التأويل وعدمه بين السلف والخلف، والطعن على الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم على نهجهم من رجال الجامعات الدينية في العالم الإسلامي: الأزهر والزيتونة والقرويين وديوبند وغيرها.
كل هذا لا ينبغي أن يكون مشغلة الفكر الذي نعده للمرحلة القادمة، ليواجه الصهيونية والصليبية والماركسية والفلسفات الهدامة القادمة من الغرب والشرق.
جدل لا ضرورة له اليوم
والفكر الواقعي الذي ننشده: فكر يهتم بالبناء والعمل لا بالمراء والجدل فإن الله إذا أراد بقوم سوءا سلط عليهم الجدل، وحرمهم العمل.
وأعني بالجدل هنا: الجدل في مشكلات تاريخية، أو نظرية بحتة، أو خلافية بطبيعتها.
ومن الجدل الذي لا ضرورة له، ولا جدوى من ورائه اليوم: ما يثار بين الحين والحين حول طبيعة الجهاد العسكري (القتال) في الإسلام: هل هو جهاد (هجومي) لنشر الإسلام في العالم أو هو (دفاعي) للذود عن عقيدة الإسلام وحرماته وأرضه؟؟
كتب في ذلك كثيرون من المحدثين واختلفوا فريقين:
فمن فريق الرأي الأول: السيد رشيد رضا، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد الله بن زيد المحمود.
وحجتهم: آيات كثيرة من كتاب الله تعالى مثل: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 190) وقوله: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) (النساء: 90) الخ.
من الفريق الثاني: العلامة أبو الأعلى المودودي، والشهيد سيد قطب وغيرهما.
وحجتهم: ما سموه (آية السيف) التي قالوا: إنها نسخت كل ما سبق من آيات كانت تمثل مرحلة انتهت. وإن اختلفوا في آية السيف نفسها: أي آية هي؟
ورأيي أن لا داعي لهذه المعركة الجدلية حول هذه القضية في الوقت الحاضر. لثلاثة أسباب:
أولها: أننا ـ نحن المسلمين ـ لم نقم بالجهاد المفروض علينا فرضا عينيا في كثير من بلاد الإسلام لتحرير أرض المسلمين من الغاصبين، والمعتدين مثل فلسطين وأرتيريا، ومثلها في الصين وأثيوبيا وتايلاند وغيرها.. مما لا يجادل مسلم في وجوب استنقاذه من أيدي القوى المعادية للإسلام، ومما ينطبق عليه قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون:
ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصير) (سورة النساء: 75).
ولم تقم الأمة المسلمة بهذا الجهاد الدفاعي المفروض عليها، فكيف تتحدث عن جهاد هجومي؟
الثاني: إن المقصود من الجهاد الهجومي ـ عند من يقول به ـ هو: إزاحة القوى المتسلطة على خلق الله، والتي تقف حاجزا أمام المسلمين حتى لا يبلغوا كلمة الله إلى الناس.
واليوم لا تستطيع قوة أن تقف أمامنا إذا صدقت نيتنا، واتجهت قدرتنا إلى تبليغ دعوتنا إلى العالم، فالكلمة المسموعة والمقروءة والمرئية يمكن توصيلها إلى الدنيا كلها بكل اللغات، عن طريق الإذاعة والتلفزة والكتب والرسائل والصحافة والجاليات الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم.
ومع هذا نحن أكثر الناس تقصيرا في هذه الناحية إذا قيس جهدنا بجهود رجال التنصير، وما يقدمونه لنشر عقيدتهم وترجمة أناجيلهم بلغات ولهجات قد تعد بالآلاف ونشر مبعوثيهم من المبشرين والمبشرات إلى أنحاء الأرض، بمئات الألوف، حتى إنهم يطمعون في تنصيرنا حتى نتبع ملتهم!! .
الثالث: أننا عالة على غيرنا في القوة العسكرية، وأن الذين نريد أن نجاهدهم جهادا هجوميا هم الذين يصنعون السلاح بكل أنواعه، ويبيعونه لنا! ولولاهم لكنا عزلا لا نقدر على شيء!!
فما معني أن نتحدث عن الهجوم لإخضاع العالم لرسالتنا، ونحن لا نملك من السلاح إلا ما ملكوه لنا، وسمحوا ببيعه إيانا؟.
أضف تعليقك