ومن منطلق ما اكتسبناه من خبرة وتجربة أثناء سيرنا على طريق الدعوة، نرى من حق الأجيال علينا أن نقدم لهم ما يتيسر من هذه الخبرة، خاصة حول قضية التربية وإعداد الأفراد وتمثلهم للمقومات والصفات اللازم توفرها فيهم، ودور هذه المقومات والصفات في مجالات العمل على طريق الدعوة.
وهذا ما سنتناوله بإذن الله بشيء من التفصيل.
ولا نريد أن تشغلنا ميادين السياسة أو الجهاد عن الاهتمام بالتربية، ولكن نوائم بين متطلبات هذه الميادين في اتزان وحكمة سائلين الله تعالى العون لنكون أهلاً لتأييده ونصره؛ وذلك بأن نتمثل صفات المؤمنين التي وردت في كتاب الله وسنة نبيه-صلى الله عليه وسلم-.
• مشاعر رجل العقيدة على طريق الدعوة:
الدعوة الإسلامية تمر بفترة دقيقة وحساسة توجب على المسلمين أن ينهضواْ من كبوتهم، وأن يستيقظواْ من غفوتهم؛ كي يقيمواْ دولتهم وخلافتهم، ويستردواْ أرضهم، وعلى رأسها فلسطين والمسجد الأقصى، ولكي يؤدواْ رسالتهم، وهي هداية البشرية إلى هذا الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس كافة وحتى قيام الساعة.
والفرد المسلم ـ رجلاً كان أو امرأةً ـ لكي يؤدي الدور المنوط به في تحقيق هذا الهدف العظيم يجب أن يهيمن عليه جو من المشاعر والأحاسيس التي تتناسب والمهمة التي يتصدى للقيام بها، خاصة وأن الفرد هو العنصر الأساسي في كل المراحل التي توصل لإتمام هذا الهدف الإسلامي الكلي، والذي توجبه طبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية.
لذا نجد الإمام الشهيد "حسن البنا" يقتبس هذه المشاعر والأحاسيس من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ففي رسالة: دعوتنا في طور جديد يقول: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاث فأشرقت بها وانطبعت عليها.
*قذف في قلوبهم أن ما جاء به هو الحق، وما عداه الباطل، وأن رسالته خير الرسالات، ومنهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين.
**وقذف في قلوبهم أنهم ما دامواْ أهل الحق وما دامواْ حملة رسالة النور، وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين أيديهم هدي السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونواْ أساتذة الناس، وأن يقعدواْ من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه: يحنو عليه، ويرشده، ويقومه، ويسعده، ويقوده إلى الخير، ويهديه سواء السبيل.
وقذف في قلوبهم أنهم ما دامواْ كذلك مؤمنين بهذا الحق، معتزين بانتسابهم إليه؛ فإن الله معهم يعينهم، ويرشدهم، وينصرهم، ويؤيدهم، ويمدهم إذا تخلى عنهم الناس، ويدافع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانواْ، وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تَنزّل عليهم المدد من السماء!! والآيات القرآنية الكثيرة تؤكد هذه المشاعر الثلاث، وهي الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها نذكر بعض هذه الآيات الكريمة: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ (النمل:79)، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية:18)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:143﴾، ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج:78)، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:40)، ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة:21)، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ﴾ (القصص:5).
وعندما نتحدث عن مقومات جندي الدعوة الذي تتطلبه هذه المرحلة وتلك المَهمّة العظمى نقول: إننا نحتاج إلى نوعية متميزة ذات خصائص معينة تتفق، وما سيُلقَى على جندي الدعوة من مهام وما سيتعرض له من عنت وابتلاء، فهو أحوج ما يكون إلى الإرادة الحازمة والعزيمة الماضية والخلق الإسلامي المتين، والزاد الروحي الدفاق المتجدد، والبدن السليم الذي يعينه على أداء الواجبات وأعباء الجهاد، مع الحيوية والحماس المنصبط، ولهذا نجد الإمام الشهيد في نفس الرسالة يقول: (نحن نريد نفوسًا حية طموحة، متطلعة متوثبة، تتخيل مُثلاً عُليا، وأهدافًا سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً ولا تحتمل شكًا ولا ريبًا، وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذه الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة).
وحينما يوضح الإمام الشهيد طريق الدعوة لتحقيق أهداف الإسلام الذي استقاه من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نجده يقول: (ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها معروفة ومقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات، وخلاصة ذلك جملتان: (إيمان وعمل)، و(محبة وإخاء)، ماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان والعمل، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة، وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها وإن ناوأها أهل الأرض جميعًا).
وكما هو معلوم أن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، ولكنه مليء بالأشواك والعقبات، وفي الوقت نفسه طويل وشاق، ويحتاج من سالكه إلى الصبر والمصابرة والثبات والجهاد والتضحية والإخلاص.
وقد نبهنا الإمام الشهيد إلى طبيعة طريق الدعوة وما سنلاقيه فيه من محن وابتلاءات، كما ذكَّرنا بعوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة من العقبات، ولا يقف في طريقها عائق، فقال رضوان الله عليه في رسالة: بين الأمس واليوم:
(أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات. أما الآن فلازلتم مجهولين، ولازلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين والعلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم. وسيتذرع الغاضبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيشير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظل الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقواْ بكم كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف:10). وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم الامتحان. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:2). ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين... فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟).
هذا ما أوضح لنا به الإمام الشهيد ما سيعترضنا على طريق الدعوة قبل أن تحدث هذه الابتلاءات بسنوات، وكأنما كان يرى بنور الله، ولعله لم يكن يتصور أن يحدث تعذيب وقتل بالصورة التي تمت في عهد "عبد الناصر" وبالوسائل المستوردة التي قام بها زبانيته ومن تبعهم وزادواْ عليها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
نقلا من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.
أضف تعليقك