• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Jan 13 22 at 06:08 PM

بقلم.. فتحي السيد

إن جماع أسباب ضيق الصدور واجتماع الهموم والأحزان في القلوب، هو مقارفة الذنوب والمعاصي، وأعظم ذلك الشرك والضلال، قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ}الأنعام [125]، فالهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، وأهل المعاصي والإعراض عن الله يعجل الله لهم في الدنيا من نماذج عقوبات جهنم ما يعرف أيضا بالتجربة والذوق؛ فلا تسأل عما هم فيه من ضيق الصدر وحرجه ونكده، وعما يعجل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا، ولو بعد حين من زمن العصيان، وهذا من نفحات الجحيم المعجلة لهم والعياذ بالله من ذلك.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب، ومَن أراد عافية القلب، فليترُكْ الآثام. وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم في قِلَّة الطعام، وراحةُ الرَّوح في قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان في قِلَّة الكلام.
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله تعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَن أحبَّ شيئاً غيرَ الله عُذبَ به، وسُجِنَ قلبُه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً.
وعلى النقيض من ذلك فالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَنْعَمِهِمْ بَالًا، وَأَشْرَحِهِمْ صَدْرًا، وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا، وَهَذِهِ جَنَّةٌ عَاجِلَةٌ قَبْلَ الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ، فإن الله تعالى يعجل لأوليائه وأهل طاعته، من نفحات نعيم الجنة وروحها ما يجدونه ويشهدونه بقلوبهم، مما لا يحيط به عبارة، ولا تحصره إشارة، حتى قال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه، فإنهم في عيش طيب.
قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. وقال بعضهم: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، قال الله تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها، وأجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة من الشهوات والشبهات.
وأما أسباب شرح الصدور، وذهاب الهموم والأحزان فمنها:
-1 التوبة: فالذنوبُ للقلب بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ولابُدَّ، وإذا ضعُفت قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، والتوبة استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهي تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير، ويُغْلَق باب الشرور.
-2 الاستغفار: ففي "سنن أبي داود"، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب"
-3 التوحيدُ: وعلى حسب كماله، وقوته وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَبِّه} فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر.
-4 الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيء أشرحُ لصدر العبد من ذلك.
-5 المحبة: وما لها من تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن له حِس به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ؛ كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ.

-6 دوامُ ذِكر الله على كُلِّ حال، وفي كُلِّ موطن؛ فللذِكْر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثيرٌ عجيب فى ضِيقه وحبسه وعذابه، وخاصة ما روي عن ابن مسعود، عن النبىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمتِكَ، ناصِيَتي بيَدِكَ، مَاضٍ فِي حُكْمُكَ، عَدْلْ في قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِي، ونُورَ صَدْري، وجِلاءَ حُزني، وذَهَابَ هَمِّي، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً"، وما روي عن ابن عباس، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول عند الكَرْب: " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض , رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ".
-7 الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال، والجاهِ، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسنَ أشرحُ الناس صدراً، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً، والبخيلُ الذى ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدراً، وأنكدُهم عيشاً، وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً.
-8إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التي تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
-9 تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وهموماً في القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقُ صدَر مَن ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله.
-10 الفزع إلى الصلاة ففي "المسند": أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة}، وخاصة قيام الليل، فلو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}، لبرز لهم التوقيع عليها: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
-11البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه، يُذكر عن ابن عباس، عن النبىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ"، وثبت في "الصحيحين": أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة، وفي "الترمذي": أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
-12 أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يَسْتَضِيءَ به في ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِي به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه، وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
وجماع ما يشرح الصدر ويذهب الهم والغم والحزن العمل بطاعة الله، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه، قال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"، وقال تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، وقال تعالى: "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا"، أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب والعمل الصالح، وقال بعض السلف: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله.

أضف تعليقك