سابعاً: الشورى الملزمة لحسم الخلاف بيننا
الشورى في الإسلام:
الشورى قيمة إسلامية عليا، وفريضة شرعية، وأمر معلوم من الدين بالضرورة؛ فهي واجبة الأداء سواء أكانت معلمة أم ملزمة، لأن الله أمر بها كما أمر بالصلاة والزكاة في آية واحدة، فهي بمنزلة الفرائض لذلك أمر الله رسولنا بهذه الفروض الثلاثة مجتمعة مبلغاً عن ربه منذ فجر الدعوة إذ قال الله تعالى: ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون( [الشورى: 38] وهذه الآية من الآيات المكية، وقد جاء الأمر فيها بالشورى مجملاً، كما جاء الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مجملاً، جاءت سنة رسول الله لتبين الممارسة العملية للشورى، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غنياً عنها؛ لأنه موحى إليه من ربه، وذلك في غير ما نزل به نص قطعي الدلالة، امتثالاً لأمر الله تعالى، وتعليما للمسلمين وإرشاداً لهم. وقال فيما رواه الترمذي: "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".
والشورى هي الطريقة التي شرعها الله تعالى لصنع واتخاذ قرارات في كل المستويات، فأي قرار يتخذ لتنعكس آثاره على غير متخذ القرار على مستوى الأمة أو دون ذلك، أو على مستوى الأسرة أو أعلى من ذلك، أو حتى على مستوى المشروع الخاص فينبغي أن يكون نتاج المشاورة، لعموم قول الله تعالى: )وأمرهم شورى بينهم( [الشورى: 38].
فالشورى تعني مناقشة وتقليب النظر في أمر من الأمور العامة، أو شأن من شئون الأمة، أو البحث في إحدى القضايا ذات الصلة والمساس بمصالح الشعب أو الوطن، وتمحيصها من المفكرين والعلماء وأصحاب المشورة للوصول إلى الأفضل والأصوب والأقرب إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد.
لهذا كله فقد أنزلتها الرسالة الإسلامية منزلة عظيمة، وبوأتها الشريعة السمحاء مكانة كبيرة في أصول التشريع، وخص الكتاب المبين الشورى بإحدى سوره الخالدات، واعتبر الالتزام بأحكامها والتخلق بآدابها من مكونات الشخصية الإسلامية، ومن صفات المؤمنين الصادقين، وتأكيداً على أهمية الشورى وردت في القرآن مقرونة بفرائض عينية لا يتم الإسلام ولا يكتمل الإيمان بدونها، كالصلاة والإنفاق واجتناب الفواحش، فقال جل شأنه: )والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون( [الشورى: 37، 38].
وهكذا دخلت أحكام الشورى وآدابها في حياة الفرد والأسرة، وفي العبادات والمعاملات، فالآية من سورة البقرة تشير إلى شأن من شئون الأسرة الخاصة بالزوجين فتقول: (فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) [البقرة: 233].
وقد أكثر المفسرون والفقهاء والحكماء من التحدث عن الشورى ومكانتها وتأثيرها في كتب التفاسير والأحكام السلطانية والسياسية الشرعية، واعتبرها كبار المصلحين ظاهرة صحيحة ودليلاُ ساطعاٌ على رقي المجتمع وازدهاره، كما اعتبروا غيابها دليلاُ على فشو الظلم والاستبداد .
فالخليفة العادل عمر بن الخطاب يقول: ( لا خير في أمر أبرم من غير شورى ) .
استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استشارة لأصحابه، يستشيرهم في الأمور الكبيرة والصغيرة، وفي أيام السلم وإبان الحروب، ويسأل الرجال والنساء، ويصغي لآرائهم فرادى وجماعات. ويستشير المسلمين في معركة بدر فيشير الصحابي الحباب بن المنذر بتغيير الخطة في القتال، فيأخذ برأيه ويقوله له: لقد أشرت بالرأي. كما ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه في معركة أحد، وبالرغم من أن المسلمين خسروا المعركة فإن القرآن الكريم أكد على مبدأ الشورى، فنزل قوله تعالى بعد معركة أحد )فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر( [آل عمران: 159] فإذا خسر المسلمون جولة أو معركة وتأصل مبدأ الشورى في مجتمعهم خير لهم ألف مرة من أن يئول أمرهم إلى تسلط حاكم ظالم، وينتهي حالهم إلى الاستبداد والاستعباد.
الصحابة يستشيرون:
لقد سار الخلفاء والأصحاب على نهج نبيهم وقائدهم في الحياة القاسية، وطبقوا نظام الشورى في عصر الراشدين، فالصديق يستشير الفاروق ويجمع الصحابة للتداول معهم في أي موضوع لا يجد فيه نصاً من كتاب وسنة، وكذا كان يفعل عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وقادة الفتح، ففي أثناء الصراع مع الفرس طلب قائد الجيش الكسروي لقاء مع قائد المسلمين للتفاوض معه، وبعد أن عرض الفارسي ما لديه أجابه قائد الجيش: أمهلني حتى أستشير القوم، فقال له الفارسي: إننا لا نؤمر علينا من يشاور، قال له قائد المسلمين: ولهذا نحن نهزمكم دائماً، فنحن لا نؤمر علينا من لا يشاور.
فالصديق رضي الله عنه يتخذ قراره في حرب المرتدين بعد استشارة واسعة للصحابة، أقنعهم بما أورد من نصوص وما ساق من حجج، وهذا ما فعله الفروق في أرض السواد، وما اشترطه عليٌّ من وجوب العودة إلى أهل الشورى ليقولوا رأيهم في تسلمه إمارة المؤمنين.
من ثمرات الشورى:
وقد أطنب من تحدث عن فوائد الشورى ومنافعها وما تجلبه من خير، وعن مآسي الاستبداد وما يجره على الأمة من الويل، فقد ساق الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه النظام السياسي في الإسلام نقولا عظيمة من كتب السالفين مثل المقولة العظيمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو يتحدث عن فوائد الشورى فيقول: في المشورة سبع خصال، استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، وحرز من الملامة، ونجاة من الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر. وكالذي أورده على لسان الأحنف بين قيس عندما سئل: بأي شيء يكثر صوابك ويقل خطؤك فيما تأتيه من الأمور وتباشره من الوقائع؟ قال: بالمشاورة لذي التجارب.
فالشورى إذن هي منهاج الإدارة في صنع واتخاذ القرار وهي عكس الاستبداد بالرأي، لما تسمح به من تنوع في الآراء التي تعرض قبل "العزم" أي قبل حسم الأمر، وقد أنزل الله تعالى قرآناً في حالتين من الحالات التي مورست فيها الشورى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم .
الحالة الأولى: كانت استشارة فرعون في أمر موسى عليه السلام:
وقد مهد فرعون لهذه الشورى بجهد كبير للتضليل والتعمية، وأورد بعض المفتريات التي اعتبرها من المسلمات، فحسم بذلك أمر الشورى قبل أن تبدأ: )وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد( [غافر: 39 ]ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي افلا تبصرون (51) أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقي عليه أسورةٌ من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين( [الزخرف: 51-53] )قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطّلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين( [القصص: 38].
وبذا وجه فرعون حملته النفسية ضد شعبه "قومه" وضد النخبة منهم "الملأ"، وكانت نتيجة هذا التمهيد بالباطل، ولأن قوم فرعون لا يعرفون للشورى معنى ولا ضرورة فقد تأهل الجميع لقبول قرار الطاغية فشاركوه في جرمه وكانوا قوماً فاسقين: )فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين( [الزخرف: 54].
ونتيجة لوجود هذا الرأي العام الفاسد جاءت الشورى، مجرد تسليم لرأي الطاغية المستبد ومحاولة لإرضائه، فقالت النخبة المحيطة به (الملأ): )قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحّار عليم( [الشعراء: 34-37].
ولذا كان قراره بقتل موسى عليه السلام ومن معه مقبولاً لديهم وأعانوه عليه.
)وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد( [غافر: 26].
)فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من أليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى( [طه: 78، 79].
ولم يحل بينهم وبين إتمام تنفيذ القرار الخاطئ إلا أن نصر الله تعالى نبيه والذين آمنوا معه.
الحالة الثانية: هي استشارة ملكة سبأ لقومها في خصوص أزمة ثارت بسبب كفرهم وسجودهم للشمس من دون الله، وبلوغ هذا الأمر سليمان عليه السلام فبعث خطابه يدعوهم إلى العدول عن هذا، ملوّحا باستخدام القوة إذا لم يمتثلوا، وظلوا يستكبرون، قال تعالى:
)قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتابٌ كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوةٍ وأولو باس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين( [النمل: 29-32].
وبذا تنازلت "النخبة" (الملأ) عن أداء الشورى، ولم يضعوا أمام متخذ القرار خيارات وبدائل، فسلموا مقدما بحق ملكتهم في الاستبداد بالرأي مذعنين مسبقاً لقرارها.
وليس هذا بالأمر المفيد لمتخذ القرار، إذ يحرمه من تمحيص الأمر والنظر إليه من عدة زوايا، بل على العكس من هذا يفرض عليه حصاراً، ويضيق أمامه الأفق الرحب، فلا يرى إلا رأى نفسه.
ومن ثم فقد اعتمدت ملكة سبأ على خبراتها الشخصية فقط، وعلى توجهها العقدي:
)وصدّها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قومٍ كافرين( [النمل: 43].
كان قرارها قرار امرأة، تميل إلى التحفظ والكيد، أكثر من ميلها إلى العقل والإقدام، والمخاطرة المحسوبة، وجاء قرارها مسبوقاً بمبرر كما يلي:
)قالت إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرةٌ بم يرجع المرسلون( [النمل: 34، 35].
وتقص علينا الآيات الكريمات خطأ قرارها وسوء تقديرها إذ كانت الشورى معيبة:
)فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون( [النمل: 36، 37] .
أضف تعليقك