الشورى واجبة الاتباع:
ذلك وقد بين لنا القرآن الكريم، وفصلت لنا السنة النبوية المشرفة القولية والعملية الشورى الإسلامية كقيمة عليا، وفريضة واجبة وكأمر من أمور الدين المعلومة بالضرورة، يقول الله تعالى:
)فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين( [آل عمران: 159]. وهذه آية كريمة نزلت بعد غزوة أحد لتقر الأسلوب الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاورة أصحابه قبيل لقاء الكفار في غزوة أحد.
ففي قول ربنا: )فبما رحمةٍ من الله لنت لهم( وهذا أمر صريح بلين الجانب وإشاعة الطمأنينة في قلوب المستشارين (صناع القرار)، ونزع الرهبة والخوف من قلوبهم والترخيص لهم بمناقشة ولي الأمر، والأصل هو الطاعة فيما أحب الإنسان أو كره.
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك( فلو أن المستشارين شعروا بالرهبة في مجلس القائد أو الرئيس لالتزموا بالطاعة طلباً للسلام، ولأراحوا أنفسهم في كل ما يقول، فلا يشحذون قرائحهم ولا يطرحون أفكارهم، ولا يُجَشّمون أنفسهم عناء بذل الجهد دفاعاً عن حججهم.
فالجو الذي يجب أن يسود على حد تعبير ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) هو جو تأليف القلوب وتطييبها ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه.
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر( فإذا ما ساد جو الطمأنينة بين المستشارين، كان حقاً على كل منهم أن يبذل غاية جهده في عرض تصوره وفي عرض الحلول والبدائل، وإبداء المبررات والخيارات والأولويات.
وعطف (المشورة في الأمر) على العفو والاستغفار لا يفيد الترتيب بالضرورة، فهما يأتيان متلازمين ويستمر العفو والاستغفار إلى ما بعد انتهاء مجلس الشورى، وهو عفو واستغفار عما يكون أي من المستشارين قد وقع فيه من لغو في القول، أو غلظة في الحديث دون قصد لما يستشعره في نفسه من أمانة وإخلاص وغيرة على المصلحة.
حكم الشورى:
تحدث كثيرون في القديم والحديث عن الشورى وحكمها في الإسلام. فرجح الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنها واجبة لأنها جاءت – كما يرى- على صيغة الأمر مما يقتضي الوجوب، كما رجح ذلك القرطبي في تفسيره. وقد روى أبو هريرة فيما أخرجه البخاري فقال: ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن الآراء تختلف حول الشورى التي هي دعامة من دعائم الحياة السياسية، وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام. فثمة رأي يقول بأنها ملزمة، وثمة رأي آخر يقول بأنها معلمة، فالشورى الملزمة هي التي تجعل الحاكم أو المسئول مقيداً بالقرار الذي يصدر عن الجماعة ممثلة في مجلس نيابي، أو بالمشورة التي تصدر عن أهل الحل والعقد، كما هو التعبير الشائع في الفقه الإسلامي، والذين يقولون بالشورى المعلمة ذكروا بأن السلطان أو الحاكم، أو الأمير أو الملك، أو أمير المؤمنين يستشير العلماء والفقهاء والمفكرين وأصحاب الخبرة، لكنه في النهاية ليس ملزماً بآرائهم، بل يفعل ما يراه حسناً ويدخل ضمن قناعاته، ما دام لم يخالف النص أو يخرج عليه.
الشورى واجبة وملزمة:
إذا تتبعنا رأي الفقهاء والمفكرين والمجتهدين المحدثين والمعاصرين نجد أنهم قد انتهوا إلى إلزامية الشورى للمسئول، بعد صدورها عن المجالس المختصة، والهيئات المعنية مستأنسين بالنصوص الواردة في المصدرين الأساسيين، القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ففي القرآن الكريم وردت آيتان كريمتان حول الشورى. الأولى (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) [آل عمران: 159].
والبعض يفهم من هذا أن الإمام يستشير ثم بعد ذلك يعزم، على ماذا يعزم؟ على تنفيذ رأي لا يراه؟ أم على رأي يخالف فيه أهل الشورى والاختصاص والدراية بمجموعهم أو بجمهورهم؟ إن الشورى لا تتناقض مع العزم بعد أن يتضح الأصوب والأصلح.
والآية الثانية تصف أمر المؤمنين في حياتهم وفي صلاتهم وعلاقاتهم، وفي صميم شئونهم بأنه يقوم التفاهم والتشاور وصولاً إلى الأمثل والأفضل.
وأما في السنة وهي الأصل الثاني أو الأساس الثاني في الإسلام فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب في الشورى مذهباً بعيداً، إذ كان كثير الاستشارة لأصحابه ولآل بيته، وللرجال والنساء، وللكبار والصغار، ولعامة الناس بأشكال مختلفة، وطرق متنوعة، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم سواد الناس على المشاركة والتفكير وتحمل المسئولية.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما، وفي هذا إشارة واضحة إلى مبدأ الأكثرية، فإذا وجد ثلاثة والتقى اثنان منهما على رأي، فما على الثالث إلا أن ينزل على رأي صاحبيه، هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي مرسل يوحى إليه، وذلك تأصيلاً للشورى والمشاركة، وإشارة إلى مفهوم الأكثرية، فكيف يكون موقف المسئولين في الحكومات والأحزاب والشركات وهم ليسوا أنبياء ولا يتنزل الوحي عليهم؟!.
وفي العادة تتقلص دائرة الشورى، ويضيق هامشها في إبان الحروب جراء الظروف التي لا تسمح باتساع دائرة الحوار، ومع ذلك وحرصاً من الرسول الكريم على تثبيت هذه الدعامة في حياة المجتمع الإسلامي، فإنه صلى الله عليه وسلم في أثناء الحروب التي خاضها المسلمون في بدر وأحد والخندق استشار أصحابه، ونزل على آرائهم دون أن نرى في كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه على آرائهم التي لم تؤد إلى النتيجة التي كانوا يتوخونها، فلم يقل لهم: أرأيتم عندما تحمستم للخروج من المدينة إلى أحد، وخالفتم رأيي ماذا حل بكم؟ كيلا يتقلص تفكيرهم، وحتى لا تضيق دائرة مشاركتهم، لأنهم كانوا يصدرون فيما ارتأوه عن إخلاص واقتناع.
موقف الفقهاء المعاصرين:
عندما نقف على فقه العلماء والمجتهدين المعاصرين، ونقرأ ما كتبوه وما صدر عنهم، نرى أن عدداً كبيراً من المتضلعين منهم، الموثوقين في علومهم وأماناتهم قد قالوا بالشورى الملزمة أو انتهوا إليها.
فالشهيد حسن البنا رحمه الله قال في أول حياته بالشورى المعلمة، وكان متحمساً لها، ويحمل إخوانه بالحوار على الأخذ بها، ولكنه في أيامه الأخيرة انتهى إلى الأخذ بالشورى الملزمة، وترك لنا قانون الجماعة التي صاغته لجنة مؤلفة من: الأساتذة (عبد الحكيم عابدين وطاهر الخشاب وصالح عشماوي رحمهم الله)، وكان الأستاذ حسن البنا على رأس هذه اللجنة التي قدمت مشروع النظام، وتم إقراره في عام 1948 أي قبل استشهاده بعام واحد، ينص هذا القانون على الأخذ والالتزام برأي الأكثرية، وإذا ما تعادلت الأصوات فإن رئيس الجماعة أو الإدارة يكون مرجحاً، وهذا هو المعمول به في كل المؤسسات المعاصرة في معظم أنحاء العالم.
وكأننا بالأستاذ البنا رحمه الله قد أخذ بالشورى المعلمة، عندما كان تلامذته ناشئين، وبعد أن بلغوا مرحلة متقدمة في الوعي والفهم انتهى إلى الأخذ بالشورى الملزمة، لتكون أصلاً ثابتاً في القانون الأساسي للتنظيم الذي أنشأه وقاده.
وللمودودي رحمه الله موقف يشبه موقف الشهيد حسن البنا، إذ قال بالشورى المعلمة ونص في كتابه – نظام الحياة في الإسلام- أنه يجوز لرئيس الدولة أن يستأثر بحق الرفض والرد، ثم انتهى به المطاف وبلغت به التجربة الطويلة عبر قيادته للتنظيم، الذي أسسه وقاده، أن يعدل عن هذا الرأي، ويأخذ بمبدأ الشورى الملزمة، ويثبت ذلك في كتابه – الحكومة الإسلامية- وينص على التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، وإلا فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها كما يقول المودودي رحمه الله.
وفي حوار مع الدكتور معروف الدواليبي الذي قام على تدريس أصول الفقه في جامعة دمشق لفترة طويلة، أكد رأيه في الشورى الملزمة، ونوه بأن هذا الأمر قد بلغ-كما يرى- مستوى الإجماع، وممن قالوا بإلزامية الشورى الشيخ سعيد حوى، وقال: هذا الأمر من الموضوعات التي يُفاضل عليها ولا يستطيع أن يتساهل بها أو يسكت عليها، لأنه بالغ الأهمية في حياة الأمة ومستقبلها. كما قال بذلك الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه –الفرد والدولة- ونص على الأخذ برأي الأكثرية أيضاً، أما الأستاذ محمد الغزالي فقد نشر في مجلة الأمة القطرية العدد 43 حواراً تحدث فيه عن البيعة والشورى كلاماً صريحاً، ووصف من يزعم بأن الشورى غير ملزمة بعبارات حادة، فقال: أرفض من يقول: الحاكم في الإسلام يتصرف دون مجالس شورى تشير عليه، وله أن ينفرد برأيه متخطياً كل رأي يعرض، هذا كلام لا يمكن أن يقال: وصاحب الرسالة المعصوم عليه الصلاة والسلام ما زعم لنفسه فكيف يزعم للآخرين؟! .. القول بأن الشورى لا تلزم أحداً كلام باطل ولا أدري من أين جاء، لعل فكرة عدم إلزامية الشورى وفكرة المستبد العادل كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير وتسويغ الاستبداد السياسي من فقهاء السلطة، ويتابع الأستاذ الغزالي حواره مع مجلة الأمة فيقول: فالذي رأيناه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلمأنه التزم بالشورى. إن الشورى من مبادئ الإسلام، وقبل أن تقوم للمسلمين دولة قيل لهم: مجتمعكم هذا الذي لما يتحول بعد إلى دولة، يجب أن يقوم أمره على الشورى (وأمرهم شورى بينهم) [الشورى: 38]. كان ذلك في العهد المكي، وعندما قام المجتمع على دولة بعد أن انتقل إلى المدينة، فإنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة أحد (وشاورهم في الأمر) [آل عمران: 159] ، وكان أول اختبار للشورى في غزوة الأحزاب عندما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يمضي معاهدة بينه وبين القبائل الوثنية المحدقة بالمدينة، والتي توشك على اقتحامها، فلما عرض على زعيمي الأوس والخزرج رفضا ذلك فقبل الرسول منهما رأيهما وأخذ به. هذا كلام الشيخ الغزالي.
ومن مشاهير الشيوخ وجهابذة العلماء الذين قالوا بإلزامية الشورى الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، فقد التزم به وارتضاه لنفسه طيلة الفترة التي كان فيها مسؤولاً عن تنظيم الإخوان في سورية. وكذلك الشيخ محمد شلتوت في كتابه: من توجيهات الإسلام، والدكتور يوسف القرضاوي والشهيد سيد قطب والشهيد عبد القادر عودة والدكتور محمد عبد القادر أبو فارس وغيرهم، فهؤلاء جميعاً قالوا بإلزامية الشورى، مؤكدين ذلك في كتبهم ومحاضراتهم وما قدموه لنا من اجتهادات علمية ثمينة.
منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.
أضف تعليقك