بقلم: وائل قنديل
كان من المتصوّر أن تكون سنوات طويلة من اللهاث خلف بالونات التغيير الخادعة قد علّمت الجمهور الحذر من تعاطي كبسولات مدرّة للأحلام والأوهام، ومضرّة بالصحة العقلية والسلامة النفسية. كان الظن أن الناس اكتسبوا مناعةً ضد هلاوس التسريبات والتخمينات التي تندلع قبل الخامس والعشرين من يناير، كل عام، تحمل للناس الأخبار السعيدة عن سقوط الانقلاب وإسدال الستار على مرحلة حكم عبد الفتاح السيسي، بالنظر إلى أنهم جرّبوا هذا الصنف أكثر من مرة من دون أن يحصلوا على شيء، إلا السراب. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ولا يزال الإقبال على هذه السلع المثيرة للعاب مستمرًا، بل وتحقّق رواجًا أكثر من ذي قبل، وخصوصًا مع تكثيف الدعاية لها، بوصفها الحل السحري والعلاج الناجع لمشكلات العقم الثوري، حتى وإن كانت مصنّعة ومغلفة داخل الورش التي أصابت ثورة يناير بالعقم والعجز والشلل.
الكلام هذا العام يذهب أبعد مما مضى في حواديت الانقلاب على الانقلاب، عن طريق ثورة العسكر على الحاكم العسكري للبلاد، إذ يذكر المروّجون البديل بالاسم، ويحدّدون الموعد، بل يذهبون إلى أن كل شيء قد تم بالفعل، ولم يبق إلا الإخراج والإعلان.
باعة الأمل والوهم المنتشرون بأعداد كبيرة هذه الأيام، يقولون للمواطن المصري الحالم بالخلاص، ابق في منزلك، وسوف يأتي التغيير إليك، في مكانك، لا تخرج ولا تتعب نفسك ولا تغامر، فهذا عسكر قد عقد النية على إنقاذك من حكم عسكر أكبر وأقدم، بل إن العملية اكتملت وستفرح أخيرًا وكثيرًا.
أذكر أن أشياء من هذا النوع انتشرت قبل نحو ست سنوات، استباقًا لتظاهراتٍ مصرية كان من المتوقع أن تكون واسعة احتجاجًا على بيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لكنها أجهضت بفعل فاعلين كُثر، ومن بين ما انتشر في ذلك الوقت، قبل الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان 2016 منشور ظهر على صفحة السيدة الفاضلة زوجة أحد فرسان الثورة، محمد البلتاجي، ووالدة الشهيدة أسماء، يقول إن طائرة رئيس الأركان (صهر السيسي) في ذلك الوقت، الفريق محمود حجازي، هبطت على أرض سجن العقرب، حيث عقد لقاءً مع المهندس خيرت الشاطر، وتفاوض معه بشأن صفقة، بموجبها يضحّي العسكر بالسيسي، مقابل تضحية الإخوان بالرئيس محمد مرسي، وتشمل الإفراج عن المعتقلين والمسجونين، والذهاب لانتخابات مبكرة.
كان السيناريو، رغم غرابته، لطيفًا ويصلح لتهدئة النفوس الغاضبة، وهدهدة الثورة كي تغفو على فراش الأوهام الوثير، لكن الذي حدث أنه بعد نصف ساعة فقط، عادت الدكتور سناء عبد الجواد، زوجة البلتاجي، ونشرت اعتذارا على صفحتها، نافية صحة الرواية المنشورة عليها. وفي التوقيت ذاته، كانت صحيفة الشروق تنشر خبرًا مثيرًا للدهشة، إن عبد الفتاح السيسي قلق للغاية مما هو قادم في الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان، لذا استدعى قادة الأمن وشدّد عليهم بأنه لن يسمح بتكرار ما جرى في الجمعة الماضية، من تظاهرات عارمة، هتفت "الشعب يريد إسقاط النظام" وقالت للسيسي: "ارحل أيها الفاشل، فمصر ليست للبيع". وبعد ساعات، أيضا، من نشر القصة في "الشروق" كانت الرئاسة تصدر بيانا مقتضبا وغامضا، تنفي فيه قصة اجتماع السيسي والأمنيين، من دون التطرّق إلى مضمون الرسالة، أو فحوى ما جرى، وهو أن السيسي لن يسمح بتكرار التظاهر ضده. .. كتبت في ذلك الوقت، متسائلًا عن المقصود بهذه الصدمة السريعة، والهزّة الخاطفة، في وقت كانت تستعد فيه قطاعات واسعة من مختلف التيارات للتظاهر في مليونية 25 أبريل/ نيسان؟.
الشاهد أن هذه الألعاب المعلوماتية المثيرة والخطيرة تكرّرت كثيرًا على مدار السنوات الماضية، وفي كل مرة كان انتقادها أو التحذير منها يضع من ينتقد أو يحذر تحت طائلة الاتهام بتحبيط الناس والإضرار بقضايا السجناء والمعتقلين وتعطيل مشروع التغيير، بأي شكل وعن أي طريق، ثم ينقشع غبار التسريبات المخدّرة، مخلفًا موجات أعنف من الإحباط والوهن، حتى تحولت المسألة بالتدريج من مأساة تؤرق بعض أصحاب الضمير في العالم، إلى ملهاة تثير الضحك والسخرية.
أبشع جريمة يمكن أن يرتكبها طبيب ضد المصابين بالعقم أن يبشّرهم بحمل كاذب.
أضف تعليقك