يواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية في خصائص فكر الحركة فيقول:
فكر وسطي
ومن معالم الفكر الذي ننشده: أنه فكري وسطي الوجهة والنزعة، فهو فكر تتجلى فيه النظرة الوسطية المعتدلة المتكاملة للناس وللحياة، النظرة التي تمثل المنهج الوسط للأمة الوسط، بعيدا عن الغلو والتقصير.
موقف الفكر الوسطي من قضايا كبيرة
تتميز وسطية هذا الفكر في موقفه المعتدل من قضايا كبيرة مهمة:
فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المنفرطة.
وسط بين أتباع التصوف وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف وإن التزم واتبع.
وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر.
وسط بين المحكمين للعقل إن خالف النص القاطع، والمغيبين للعقل، ولو في فهم النص.
وسط بين المقدسين للتراث، وإن بدا فيه قصور البشر، والملغين للتراث، وإن تجلت فيه روائع الهداية.
وسط بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية. والمهملين للسياسة كلية بدعوى التربية.
وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم بعد نضجها.
وسط بين المستغرقين في الحاضر غائبين عن المستقبل، والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرءونه.
وسط بين المقدسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تعبد، والمتحللين من أي عمل منظم كأنهم حبات عقد منفرط.
وسط بين الغلاة في طاعة الفرد للشيخ والقائد كأنه الميت بين يدي الغاسل، والمسرفين في تحرره كأنه ليس عضوا في جماعة.
وسط بين الدعاة إلى العالمية دون رعاية للظروف والملابسات المحلية، والدعاة إلى الإقليمية الضيقة دون أدنى ارتباط بالحركة العالمية.
وسط بين المسرفين في التفاؤل متجاهلين العوائق والمخاطر، والمسرفين في التشاؤم فلا يرون إلا الظلام، ولا يرقبون للظلام فجرا.
وسط بين المغالين في التحريم لأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال، والمبالغين في التحليل كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام.
هذه هي الوسطية التي يتبناها هذا الفكر، وإن كان الغالب على مجتمعاتنا اليوم السقوط بين طرفي الإفراط والتفريط، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
انحسار الوسطية في بعض الفترات ولدى بعض الإسلاميين
إن بعض الإسلاميين قد انحصرت عنده الألوان الكثيرة في لونين اثنين لا ثالث لهما، هما الأبيض والأسود، وليس بينهما ألوان أخرى، مما يعرفه الناس من الألوان الأصلية والفرعية، التي لكل منها درجات لا تكاد تحصر.
وبعض هؤلاء يكاد يحصر الألوان كلها في واحد، ويجعل الأصل في الألوان كلها وفي الحياة كلها هو (السواد) تبعا للمنظار الذي يرى فيه الناس والأشياء.
وبهذه النظرة السوداء المتشابكة حدد أجوبة جاهزة لكل شيء، يطلقها كالقنبلة، ولا يبالي ما أصابت من الحياة والأحياء.
فالمجتمع جاهلي كله. .
والحياة إثم كلها
والناس كلهم كفار أو منافقون..
والعالم كله وحوش ..
والدنيا كلها شر ..
وكل ما يمارسه الناس في حياتهم المعاصرة حرام في حرام ..
فالغناء كله في نظره حرام ..
والموسيقى كلها حرام ..
والتصوير كله حرام ..
والتمثيل كله حرام ..
والمسرح حرام ..
والفنون كلها حرام في حرام ..
هذا مع أن سلف الأمة كانوا يتحرجون أشد الحرج من إطلاق كلمة (الحرام ) إلا على ما علم تحريمه جزما، ولهذا نزل في ذم الخمر آيتان في سورة البقرة: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) وفي سورة النساء: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) ومع هذا ظل بعض الصحابة يشربها، وظل بعضهم يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، حتى نزلت آية المائدة الحاسمة (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) .
يجب أن نعترف أن الفترة الماضية ـ وخصوصا في الخمسينيات والستينيات ـ كانت مجالا خصيبا لانتشار نوع من الأفكار السوداء في الساحة الإسلامية فقد غلب الفكر الذي ينزع إلى الرفض والتشاؤم والاتهام وسوء الظن بالآخرين على اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، حتى المسلمين منهم.
أجل، راجت فكرة التفسيق والتبديع، بل التكفير.. وساعد على ذلك الجو الخانق الذي كانت تعيشه الحركة الإسلامية ورجالها ودعاتها، الذين نصبت لهم المشانق جهرة، أو قتلوا بأدوات التعذيب خفية، أو صبت عليهم ألوان التنكيل والتشريد من كل جهة، في حين فتحت الأبواب أمام الشيوعيين والعلمانيين وكل خصوم الإسلام.
وبرز في الفكر الإسلامي الإعنات والتصلب و تقهقرت روح الوسطية السمحة الميسرة إلى حين. وأعتقد أن الحركة لا بد لها من التغلب على فكر المحنة أو فكر الأزمة، لتنتقل إلى الفكر الوسطي المعتدل، المعبر عن وسطية الأمة المسلمة، ووسطية المنهج الإسلامي: الذي أراد الله به اليسر، ولم يرد به العسر.
الوسطية ملازمة للتيسير
إن الوسطية في رأيي ملازمة للتيسير، فهو وسط بين التزمت والتنطع من ناحية، والتسيب والتحلل من ناحية أخرى.
على الحركة أن تتبنى فقه التيسير
وينبغي للحركة الإسلامية أن تتبنى ـ في مجال الآراء الفقهية المتعلقة بالمجتمع وسياسته واقتصاده وقوانينه ومعاملاته وعلاقاته الدولية ـ خط التيسير، لا التعسير، والتسهيل لا التعقيد والتشديد.
وذلك لجملة أسباب:
أولها: أن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج والتخفيف والرحمة والسماحة، كما دلت على ذلك النصوص الغزيرة والوفيرة.
يقول تعالى في آية الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185)، وفي ختام آية الطهارة: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) (المائدة: 6) وعقب أحكام النكاح والمحرمات: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) (النساء: 28)، وفي أحكام القصاص والعفو فيه: (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) (البقرة: 178).
والرسول الكريم يقول: "يسروا ولا تعسروا" متفق عليه. ويقول: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" رواه الترمذي.
ولما أصابت عمرو بن العاص جنابه في ليلة باردة، فصلى دون اغتسال، فشكاه من معه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) (النساء: 29) فتبسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حين أنكر أشد الإنكار على جماعة أفتوا مجروحا أصابته جنابة بضرورة الاغتسال، فاغتسل فمات بسبب فتواهم المعنتة فقال: قتلوه، قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه يربط على جرحه ويتيمم".
ثانيا: أن الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير عليهم، والتخفيف عنهم، رفقا بهم ومراعاة لحالهم، حيث ضعفت الهمم، وغلب على الناس التكاسل عن الخيرات، وكثرت فيهم العوائق عن الخير، والمرغبات في الشر.
فالأولى أن يفتوا بالرخص أكثر من العزائم، بالتسهيل أكثر من التشديد. كما كان يفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع حدثاء العهد بالإسلام، ومع الأعراب من أهل البادية، فهو يقبل ممن أقسم ألا يزيد على الفرائض شيئا من السنن أو التطوع ويقول: "أفلح إن صدق" أو "دخل الجنة إن صدق" أو "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
وكان ذلك رفقا به، ومراعاة لحاله.
ثالثا: إن الفرد بوسعه أن يشدد على نفسه إن شاء، ويأخذها بالعزائم إن كان من أهلها، مع أن الأولى هو الاعتدال والتوازن كما في الحديث "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته".
ولكن لا ينبغي للفقيه أن يشدد على الناس في الأمور التي تهم جمهورهم، بل يراعي أن فيهم الضعيف والكبير وصاحب العذر، كما جاء في الإمامة في الصلاة "من أم الناس فليخفف فإن من ورائه الكبير والمريض وذا الحاجة".
والصلاة رمز لشئون الحياة المختلفة.
ولهذا لا يسع فقهاء الحركة الإسلامية أن يتبنوا الآراء المشددة التي تضيق ولا توسع، وتجنح إلى التحريم أكثر من التحليل، في القضايا المتعلقة بالمرأة والأسرة واللهو والفنون ونحوها.
ومثل ذلك الآراء المتعلقة بالمعاملات، فالأصل فيها الإباحة والإذن لا المنع والتحريم.
وكذلك قوانين العقوبات، ينبغي الأخذ بالأقوال الميسرة فيها، كالقول الذي يرى أن التوبة تسقط الحد، وأن عقوبة الخمر عقوبة تعزيرية… وهكذا.
وأود أن يكون شعارنا في هذه المرحلة قول الإمام سفيان الثوري: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسه كل أحد"!
أضف تعليقك