الشورى تحسم الخلاف:
إن سيادة مبدأ الشورى لم يكن وقفاً على فئة دون غيرها، وإنما امتد لينعم في ظله جميع المسلمين؛ ذلك لأن القيادة المخلصة تحذر من التنازع والاختلاف المؤدي إلى الشتات والتمزق الذي يجر إلى الضعف، وذَهاب القوة، وإعطاء العدو الفرصة للانقضاض عليهم، ولا بد من الحفاظ على جمع الكلمة والتئام الصف وتلاحم بنية الجماعة، وهذا لا يتم إلا عند صفاء النفوس والابتعاد عن ركوب الأهواء، والطاعة الكاملة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولولي الأمر في غير معصية وتسيير الأمور تحت إطار النص من الكتاب أو السنة، أو الشورى فيما لا نص فيه.
ولذلك كان من الأمور التي تضمن سلامة الجماعة من التصدع والشقاق الرجوع للشورى بشرط أن تكون في أهلها من ذوي العلم والرأي، فهم أهل المعرفة بمواطن المصلحة والمفسدة. والتنازل لرأي الجماعة بعد تداول الرأي وتمحيصه لا يترك سبيلاً للخلاف، وقد أرشد إلى التشاور رب العزة تبارك في قوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران: 159] وقال: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [الشورى: 38].
ولذلك فإن القيادة المخلصة تضع مبدأ الشورى موضع التنفيذ لأن ربنا يقول: (وشاورهم في الأمر) ويعني هذا أن تكون المشاورة فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد، لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "أنا أقضي بينكم فيما لم ينزل فيه وحي" وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم يمض فيه منك سنة، قال: "أجمعوا له العالمين" أو قال: "العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد".
وعلى القيادة وهي وسط الأمواج والأنواء والأعاصير، تحرّي الصواب فيما لا نص فيه، بما يحقق مصلحة الجماعة بالضوابط الشرعية، بل تبذل الجهد للوصول إلى أصوب الرأيين، وأهون الضررين، وأرجح المصلحتين، وقد قيل: إن العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، أما الحكيم فهو الذي يعرف خير الشرين إن كان في الشر خيار.
ولذلك فإن في البيئة النقية تتوفر جهود العلماء وصلحائها على إرساء قواعد الحرية الفكرية التي تتغذى بالحوار، وتنمو بالمراجعة، وتصح بالنقاش؛ فتتنوع أساليب العمل، وتتعدد وجهات النظر، فيثمر ذلك قوة في البنية الفكرية، ووعياً في التناول والمعالجة، واحتفاءً بالرأي، وتلمساً للحق، وانقياداً له؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
وهذا المسلك هو الذي حرص على تأصيله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع صحبه الكرام؛ ذلك لأن عصمته من الخطأ، وتسديده بالوحي، لم تجعله يستنكف عن مشورة أصحابه، إقراراً لمبدأ الشورى في حياة المسلمين من بعده، ودفعاً لغوائل الاستئثار بالرأي، ومصادرة حق الآخرين في الإفصاح عما يخامر أذهانهم، ويتفاعل في نفوسهم، فكانت المواقف تجاه الأحداث المختلفة تجسيداً لروح الجماعة ومرئياتها المنسجمة والملتزمة بهدي النبوة.
ولا نكاد نحصي تلك المواقف التي بإمكاننا أن ندلل بها على صدق ما ذهبنا إليه، ولكننا نكتفي بموقف واحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال لا الحصر:
ما حدث بعد معركة بدر عندما توجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاء أصحابه قائلاً: "ما تقولون في الأسارى؟".
ولو قالوا: الأمر إليك فافعل ما ترى، لما كان في ذلك انتقاص من أقدارهم أو تقليل من مكانتهم، إذ إنهم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالقرآن ومثله معه، ولكنهم آثروا أن يفيضوا على الموقف ما يعين في تقرير مصير أولئك الأسرى، فاتخذوا في ذلك مذاهب شتى، تنبئ عن تباين شديد في وجهات النظر، ولكن في إطار من الحوار الراقي الذي لم يكن للهوى فيه نصيب.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، قوم وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فأضرم الوادي عليهم حطباً، ثم ألقهم فيه. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم بشيء، ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ برأي أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) [إبراهيم: 36] ومثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [المائدة: 118] ، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) [يونس: 89] ومثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) [نوح: 26].
ويبدو جلياً كم كان الرسول عليه السلام حفياً بهذه الآراء وهو يلتمس لكل واحد منها وجهاً من وجوه الحرص والغيرة.. وغير هذا الموقف الكثير الذي لا يعد ولا يحصى. وبذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً أمثل لحياة راشدة، تحققت من خلالها كرامة الإنسان وحريته في إبداء رأيه في مجتمع ساد فيه مبدأ الشورى حين آمن الجميع ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.
منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمه الله.
أضف تعليقك