• صحة العبادة:
ذكرنا أن من أهم مقومات رجل العقيدة صحة العبادة، وأوضحنا أن المقصود هو حسن أداء العبادة بحيث تحقق أثرها التربوي وتزود صاحبها بزاد التقوى؛ فالتقوى هي ثمرة العبادة كما بينها الله في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقر:21).
وقد تعرضنا إلى فريضة الصلاة وبعض آثارها التربوية المطلوبة لكل مسلم عمومًا ولرجل العقيدة خصوصًا، وحاولنا أن نعين الأخ المسلم، كيف يحيا في محراب الصلاة بقلبه ووجدانه؛ ليكسب هذا الزاد من التربية والتقوى، كما يمكن الرجوع إلى كتاب (الحياة في محراب الصلاة) ففيه تفصيل أكثر وأدق.
ونحاول هنا التعرض بنفس الأسلوب إلى الفرائض الثلاث الأخرى وهي: الصوم والزكاة والحج، ونعرض إلى بعض الآثار التربوية، والزاد الروحي لكل منها، وبالله التوفيق.
الصوم: لقد فرض الله صوم شهر رمضان، الذي خصه بخير كثير، تكريمًا لنزول القرآن فيه، بل جعل ليلة نزوله خيرًا من ألف شهر، والصوم ليس مجرد الامتناع عن إشباع شهوتي البطن والفرج فترةً من اليوم؛ ولكنه حياة كاملة مع الله بالقلب والجوارح، ومراقبة لله، ومجاهدة والتزام بآداب الإسلام وأخلاقه، وابتعاد كامل عن كل ما نهى عنه الإسلام من أقوال وأفعال...، وهكذا نرى شهر الصوم بمثابة "مصحَّة" يدخل فيه المسلم شهرًا كاملاً، يعالَج فيها من كل العلل والأمراض؛ ليخرج منها مع العيد معافىً من كل داء، فرحًا بصيامه وشفائه.
*ومن أهم ما يخرج به الصائم من آثار تربوية صفة الإخلاص لله، وحسن مراقبته، فالصوم سر بين العبد وربه، والإخلاص من أعظم وألزم الزاد لكل مسلم على طريق الدعوة، فلا خير في عمل أو جهد خلا من الإخلاص.
*والصوم يقوي إرادة المسلم، حيث يجاهد نفسه ويكبح نفسه وشهواته عن الحلال فترة من اليوم طوال الشهر، فذلك يعينه على كبحها عن الحرام، وقوة الإرادة من ألزم الزاد لرجل العقيدة على طريق الدعوة.
*والصوم يكسب الصائم فضيلة الصبر، الذي هو من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها رجل العقيدة؛ لتخطِّي العقبات ومواصلة السير على طريق الدعوة دون ضعف أو وهن أو استكانة.
*والصوم يطوع الجوارح كلها لمرضاة الله، فتصوم العين والأذن واللسان واليد والرجل والفم والفرج عن كل ما حرم الله، وهذا جانب تربوي مهم في تكوين شخصية رجل الدعوة وجندي العقيدة.
*والصوم يكسب صاحبه فضيلة الحلم على الجاهلين، ويكظم غيظه، ويرد جهل غيره ويقول: إني صائم، وما أحوج رجل الدعوة إلى سَعة الصدر ولين الجانب وعدم الغضب للنفس!!.
*والصوم يربي في قلب الصائم صفة العطف على الفقير والمحتاج، فيسود التعاطف والتكافل بين المسلمين.
*والصوم- وخاصةً في أيام الحر الشديد- يهيئ المسلم للصبر والتحمل في ميادين الجهاد ومجالدة الأعداء.
*والصوم يدعم معنى الجماعة في نفس الصائم، حين يشعر أن المسلمين جميعًا في أنحاء العالم يشاركونه أداء هذه الفريضة في نفس الشهر.
*والصوم يربط المسلم بهذا الكون وما فيه من أقمار ونجوم حيث يربط الصيام والإفطار آخر الشهر برؤية الهلال.
ويُعَوِّدُ المسلم الدقة في أوقاته، حيث يتحرى وقت الإمساك ووقت الإفطار؛ حتى لا يبطل الصوم، كذلك وللصوم آثاره الصحية الطيبة كذلك.
الزكاة: أما عن فريضة الزكاة وما تتضمنه من آثار تربوية مهمة، فنذكر منها:
*أن في الزكاة تذكيةً للنفس وتطهيرًا لها، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة:103).
*وعلى المزكِّي أن يعلم أن المال مال الله في يده، وأنه عرض زائل يستعين به لأداء رسالته في الحياة، وأن إعطاءه الزكاة لمستحقيها ليس تفضلاً منه عليه، ولكنه حق معلوم فرضه الله في ماله الذي رزقه إياه.
*وفي إخراج الزكاة تطويع للنفس وترويض لها على مغالبة حب المال والتعلق به وحث على العطف على الفقراء والمحتاجين، والمشاركة في أمور الأمة والدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله.
*على المسلم أن يشعر أن جمع المال ليس غاية، ولكنه وسيلة لاستخدامه في مرضاة الله؛ فيظل في يده ولا يدخل إلى قلبه.
*والمسلم الصادق يعلم أن ما حصل عليه من مال هو من فضل الله عليه، وليس بمجرد قدرته الشخصية كما ادَّعى "قارون".
*الزكاة تربي في نفس المزكي الثقة بالله وبما عنده أكثر من ثقته بما في يده، فظاهر الأمر أن الزكاة أخذ من المال أو انتقاص له، ولكنه عكس ذلك، فهي تنمية ومضاعفة له، بعكس الربا الذي ظاهرة زيادة للمال وهو في الحقيقة محق له!!: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة:276).
*على المزكِّي ألا يظن أنه متفضل على من يعطيه الزكاة، بل الفقير هو الذي تفضل عليه وأخذ منه الزكاة، وكان من الممكن أن يتبادلا المراكز.
*فحاجة المزكي لإخراج الزكاة أشد من حاجة الفقير لأخذ الزكاة، فالمزكي يرجو من ورائها ثواب الله الذي يدخله الجنة ويزحزحه عن النار، أما الفقير فيحتاج الزكاة للغذاء والكساء في الدنيا، فعلى المزكي- الذي هو أشد حاجة من الفقير ليأخذ منه الزكاة- أن يسعى إلى الفقير لا أن يسعى إليه الفقير، وعليه هو أن يشكر الفقير لا أن ينتظر الشكر من الفقير.
*الزكاة تدفع المسلمين لاستثمار أموالهم بما ينفع المسلمين، بدلاً من تعطيلها، وفي ذلك دعم وتقوية للإسلام والمسلمين.
*الآيات والأحاديث التي وردت تحث على الزكاة والإنفاق في سبيل الله تدفع المسلم إلى إيثار ما عند الله وإلى تقديم الخير والزاد ليوم الحساب، وتدفع إلى الإسراع في تقديم الخير قبل فوات الأوان. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:261)، ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ َلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المنافقون: 10،11).
*إن شمول فريضة الزكاة لكثير من الثمار والمحاصيل والحيوانات فيه معنى مشاركة الفقير لكل هذه الأنواع وعدم حرمانه من شيء منها بسبب فقره.
وهكذا نجد الزكاة عندما نعيش أسرارها كلها عبر دروس يلزم تدبرها والالتزام بها.
الحج: أما عن فريضة الحج، فلها أيضًا زادها وآثارها التربوية، التي تتميز بها إذا أُدِيَتْ على الوجه الصحيح.
*ولأنها تسقط بأدائها مرة في العمر لمن استطاع إليها سبيلاً، فقد خصها الله بفيض غامر من الزاد الوفير الذي يفيد صاحبه فيعود نقيًا كيوم ولدته أمه. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ﴾ (البقرة:197).
*الحاجّ عندما يبدأ السفر يشعر أنه في ضيافة الرحمن، مع ركب ضيوف الرحمن، وزوار بيته الحرام، يطرح وراءه كل مشاغل الدنيا، ويتوجه إلى الله بقلبه، ويخرج من زخارف الدنيا، ويلبس ملابس الإحرام، متذكرًا بذلك خروجه من الدنيا بلباس الكفن؛ فيستعد لهذا اللقاء بخير زاد، إنها رحلة بالقلب والروح قبل أن تكون رحلة بالجسد.
*التلبية وما تحمله ألفاظها من معاني الاستجابة لداعي الله، وتنزيه الله عن الشرك، وحمده ورد النعمة والملك له كل ذلك له أثره التربوي في نفس الحاجّ.
*عندما يقع بصر الحاج على الكعبة لأول مرة يتملكه شعور بالمهابة والتعظيم وحال التأثر والرهبة مع ذكر الدعاء المأثور.
*إن المشاعر التي تصاحب الحاجَّ في أثناء الطواف، واستلام الحجر الأسود وعند الملتزم وصلاة ركعتين عند مقام إبراهيم والشرب من ماء زمزم والسعي بين الصفا والمروة، كلها تحمل معنى الانقياد لأمر الله وتحقيق العبودية بالامتثال والتعظيم والإجلال لله سبحانه، وتذكر لموقف سيدنا إبراهيم- عليه السلام- وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل، وكيف امتثلواْ جميعًا لأمر الله ولم يستجيبواْ لوسوسة الشيطان؟!!.
*وفي اجتماع الحجاج من كل أقطار العالم فرصة لتقوية الروابط بين المسلمين وتعارفهم على أحوالهم وما يوجبه إسلامهم عليهم من تعاون ومساندة.
*ثم وقوف الحجيج على عرفات الله- هذا الجبل الذي خصه الله دون الجبال بخير كبير والفيوضات والرحمات التي تنزل على ضيوف الرحمن-، هذا المشهد العظيم في زيّ الإحرام، والكلُّ يجأر بالدعاء إلى الله فيه تذكيرًا بيوم الحشر.
*وفي رمي الجمار تجسيد لمقاومة نزغات الشيطان وتذكر أبينًا إبراهيم- عليه السلام- وزوجه وابنه إسماعيل- عليه السلام-.
*وفي ذبح الهَدْي وتوزيعه على المحتاجين قربةً لله، ورجاءً منه أن يعتق الحاج من النار.
*وفي طواف الوداع إحساسٌ بفراق أعز الأماكن وأحبها إلى القلب، مع رجاء القبول والأمل في العودة فيما يقبل من عمر.
هكذا نرى بهذه الجولة المركزة أهمية الآثار التربوية للعبادة الصحيحة التي هي من أهم وألزم مقومات رجل العقيدة على طريق الدعوة، نفعنا الله بها، وزودنا بزاد التقوى.
• الخلق المتين ومجاهدة النفس:
إذا كانت عقيدة التوحيد وسلامتها تحتل المكان الأول والرئيسي في بناء شخصية الفرد المسلم رجل العقيدة، وتحتل العبادة الصحيحة المنزلة الثانية، فإن الأخلاق الإسلامية تأخذ المرتبة الثالثة في تكوين المسلم القدوة لأهميتها كذلك.
منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.
أضف تعليقك