ونكمل مع كتاب زاد على الطريق لفضيلة الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – حول المعاني والأعمال التي يتزود بها الداعية في طريقه حيث يقول:
التفكر فى الغيب.... الذى ينتظرهم
كثير من الناس لا يفكرون في الغيب الذي ينتظرهم و المصير الذى يسيرون إليه، ويعيشون يومهم ودنياهم فقط، وكأن هذا الغيب لا يستحق الاهتمام مع أنه الجدير بكل الاهتمام؛ فهو المستقبل أو الحياة الحقيقية الأبدية .
فهل يشكون في وقوعه لأنه غيب لا يلمسونه بحواسهم؟ أم أن الدنيا ألْهَتهم وشغلتهم عنه؟ إن كانت الأولى فليراجعوا إيمانهم، وإن كانت الثانية فلينتبهوا قبل فوات الأوان، إن الإيمان بالغيب وباليوم الآخر شرط لازم لتحقق الإيمان. وكيف لا نؤمن إيماناً يقينياً والله عز وجل يقسم بقوله: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } .(الذاريات - 23)
إنها الغفلة والانشغال بمتاع الدنيا وزخرفها فلم يعد عند الناس وقت ولا حيز للتفكير في الآخرة .
ما أجدرنا أن نتخلص من كل آثار الغفلة ونفكر في هذا الغيب وكأننا نمر به ونعيشه كأنه واقع كما صوره لنا القرآن و السنة فسينتج هذا التفكر تقديراً حقيقياً لهذا الغيب، يدفعنا إلى العمل والاستعداد لمواجهة هذا الغيب وهذا المصير بما فيه سعادتنا .
و الغيب يبدأ باللحظة التالية، وإذا حاولنا تجزئته إلى مراحل فنبدأ بالمرحلة من اللحظة التالية حتى الموت، ثم الموت، ثم القبر وحياة البرزخ، ثم البعث ثم العرض و الحساب والصراط، ثم الجنة أو النار .
الفترة الباقية من الأجل :
الفترة الباقية من الأجل لاندرى أتطول أم تقصر وهل سنوفق فيها الى الخير و العمل الصالح ، أم سنتعرض الى فتن وانحراف أو زيغ ، خاصة فى هذا العصر الذى كثرت فيه الفتن وتنوعت، الشعور بالخوف و الحذر مع الشعور بالطمع و الرجاء في رحمة الله يجب أن يلازما كل واحد منا هكذا بصورة تولد فينا الدافع القوى لاستغلال الوقت في تقديم الخير الذى ينفعنا: { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } .
وعل طريقتنا في التفكير اجلس ياأخى، واخْلُ إلى نفسك، وتصور أنك أو أحد غيرك - إن كان ذلك يزعجك - قد قرر الأطباء أنه مريض بمرض سيلقى الله بسببه بعد مدة لا تزيد على ستة أشهر مثلاً ، وقد علم هو بذلك، وبدت له مدة الحياة هكذا محدودة وبدأ العد التنازلى، تصور معي كيف يكون حاله - على فرض أنه مؤمن - لاشك أنه سيسارع إلى عمل الخيرات بكل ما يستطيع مستغلاً كل وقته دون أن يضيع لحظة فيما لا ينفعه في الآخرة، ونجده يقدم ماله وجهده وفكره ونفسه وكل ما يملك فى سبيل الله دون تردد ولا بخل، وأحسب أنه لا يقدم على معصية، بل إنها لا تخطر بباله، كيف وهو يتهيأ للقاء الله و الحساب و الجزاء هذا ما أتصوره .
فهل يا أخى يضمن أحد منا أن يستمر أجله ستة أشهر أو أياماً أو ساعات أو دقائق أو حتى ست ثوان ؟ فهلا حاولنا أن نكون قريباً من هذا الحال فنترقب لقاء الله ونتهيأ له فإنه يأتى بغتة: { وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأى أرض تموت } كلما واتتك فرصة عمل خير فلا تؤجلها، واغتنمها؛ فقد يحال بينك وبينها، بل لا تنتظر فرص الخير حتى تأتي إليك، ولكن اسع إليها وابحث عنها لتكون ممن قال الله فيهم: { أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون } ، إننا نرى من يسافرون ويسهرون ويجهدون أنفسهم لاغتنام كسب مادى دنيوى تافه وقد ينسون أنفسهم دون طعام أو نوم مدة طويلة بسبب الرغبة القوية في الكسب المادي ، فهلا نأخذ العبرة وننشط ونجهد أنفسنا في تجارتنا مع الله وشتان ما بين التجارتين وبين الربحين .
اجتهد يا أخي واعمل ما وسعك العمل لله في إخلاص والتزام لشرع الله واستقامة على أمر الله ، احرص على ألاَّ يأتيك الموت وعليك دين لأحد ودين الله أحق بالوفاء ، واحرص أن تلقى الله وأنت سليم الصدر نحو إخوانك المسلمين واعلم أن أدنى مراتب الأخوة في الله سلامة الصدر وأعلاها الإيثار ؛ فلا تبيتن ليلة إلا على هذه الحال .
وسارع يا أخي إلى التوبة والاستغفار قبل حلول الموت؛ فإن التوبة لا تقبل عند حضور الموت: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } (النساء - 17).
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } .(النساء - 18)
مرحلة الموت :
ثم ننتقل إلى مرحلة الموت كحد فاصل وهام بين مرحلتين في هذا الغيب الذى ينتظرنا، لايشك أحد منا أنه سيموت، فالله سبحانه وتعالى يقول: { كل نفس ذائقة الموت } ولم نر أحداً فرَّ من الموت، ولكن رغم ذلك نرى كثيراً من الناس ينسون الموت وكأنه كتب على غيرهم بسبب انشغالهم بالدنيا .
يجب علينا أن نتذكر الموت دائماً ونكون على أهبة الاستعداد للقاء الله، إذا وسوس الشيطان لإنسان بارتكاب معصية وتذكر الموت وأنه ربما يفاجئه وهو يرتكب المعصية ولا يستطيع له دفعاً، وكيف يختم حياته بهذه الخاتمة وأى لقاء يلقى به ربه وهو على إثم؟ ، لاشك أن تذكر الموت كفيل أن يصرف عنه هذا الوسواس ويزجره ويعينه على شيطانه .
والرسول صلى الله عليه وسلم يدلنا على دوام تذكر الموت كما في دعاء النوم ودعاء الاستيقاظ .
احرص ياأخى أن يأتيك الموت وأنت على خير وفى طاعة، استقم على أمر الله وكن من المتقين :{ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } .(النحل - 32).
لقد بكيت ياأخى عند ولادتك والأهل حولك يضحكون سروراً؛ فاحرص يوم موتك وهم يبكون حولك أن تكون فرحاً مسروراً . أحب لقاء الله يحب الله لقاءك .
إجعل هذا الموت فى سبيل الله بل اجعله أسمى أمانيك ، احرص أن تحول موتك الى حياة بأن تلقى الله شهيداً: { ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } . (آل عمران - 169)
اعقد ياأخى الصفقة الرابحة مع الله إن لم تكن عقدتها من قبل، بعه نفسك ومالك؛ لتنال جنة عرضها السموات والأرض، فإذا جاء الأجل بعد عقدها ولو بلحظة فزت ونلت الثمن، وإذا تأخر الأجل فكن دائماً على وفائك بعهدك وعقدك ولا تتردد أو تبخل: { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } ،(محمد - 38) { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} .(التوبة - 111).
القبر وحياة البرزخ :
تعالى ياأخى بعد ذلك لننتقل الى القبر لنزوره ونحن أحياء قبل أن نزوره عند الموت، ولا يلهينا التكاثر، تعال نزره لنتعرف عليه وعلى طبيعة الحياة فيه ونعده ونهيئه لاستقبالنا لا بالجص و الرخام و الرمل الناعم فلا أثر ولا تأثير لذلك على المقبورين، ولكن لنأخذ العبرة التى تحثنا على العمل الصالح، فالعمل هو الذى سيصحبنا في القبر وهو الذى يجعله إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار .
والحياة في القبر فترة محدودة أشبه بالزيارة يكون بعدها البعث و النشور و الحساب و الجزاء وصدق الله العظيم: { ألهكم التكاثر حتى زرتم المقابر } .(التكاثر 1- 2)
ليس فى مقدورنا أن نعرف بدقة طبيعة الحياة في هذه الفترة فهي لاشك مغايرة لحياتنا الآن، فالروح تنفصل عن الجسد الفاني، وما ورد في الكتاب و السنة يعطينا ملامح حول هذه الحياة، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، والله أعلم بطبيعة هذه الحياة التى يحيونها عند ربهم، وهناك مساءلة القبر وفتنة القبر التي وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستعاذة بالله منها .
والقرآن يذكر لنا في شأن فرعون وآل فرعون فيقول: { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .(غافر - 46)
و العذاب فى القبر يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان فى كبير - أى يكبر ويشق عليهما فعله - أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة... رواه الجماعة .
لنذكر القبر وحياته دائماً؛ فهو ليس منا ببعيد؛ فقد يصبح الواحد منا في بيته وبين أهله ويمسي وحيداً في قبره .
ولا يفوتنى في هذه المناسبة أن أذكر خاطرة لأحد الإخوة أكرمه الله عندما اعتقل في جوف الليل وأخذه جند الطاغية من بين أهله وألقوا به فى زنزانة مظلمة خالية من كل شىء وأغلقوا الباب خلفهم وإذا به لايرى شيئاً من شدة الظلام، فكانت تلك الخاطرة: فقد تصور أنه خرج من الدنيا وصار فى القبر وأنه يواجه الحساب و الجزاء وأن عمله لايضمن له النجاة من العذاب ففزع وخاف، وتمنى أن يعيده الله تعالى إلى الدنيا؛ ليتدارك أمره، ويصلح حاله، وكأن الله حقق أمنيته وها هو فى الدنيا، وقد تجددت له فرصة العمل وإصلاح أمره؛ فكان لهذه الخاطرة الأثر الفعال في نفسه؛ فقد جعلته يرضى بحاله التي هو فيها ولو كان في زنزانة مظلمة بعد أن كان بين أهله من لحظات؛ فلا جزع ولا غم ولا كرب؛ فهذا أهون بكثير من التعرض لعذاب الله، كما قوَّت هذه الخاطرة في نفسه دوافع الخير والعزم على المسارعة إلى كل عمل صالح ينال به رضوان الله وينجيه من عذاب الله .
هذه جولة تفكر فى بعض مراحل الغيب الذى ينتظرنا لنقرأها مرات ولنتذكرها دائماً لنتزود بالزاد الذى يحفظنا ويعيننا على الطريق والله المستعان وبالله التوفيق.
أضف تعليقك