بقلم: المستشار حسن الهضيبي رحمه الله
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: من الآية 9).
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (النجم: 1- 5).
قال صاحبي وهو يحاورني: أنا أؤمن بأن الإسراء والمعراج كانا بالروح والبدن.. ولو أن الناس فهموا أن ذلك كان بالروح فقط لما أنكر قوم على الرسول قوله، ولما كانت هذه الآيات التي تفيد الانتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ذلك أن المسلم وغير المسلم، البَر والفاجر، كلٌّ منهم يرى الرؤيا المفاجئة، وأنه انتقل من المغرب إلى المشرق فلا يعترض أحد عليه، فلو كان الإسراء بالروح فقط لم يكن في الأمر معجزة، مع أن الإسراء لم يكن إلا معجزةً تحدَّى بها الرسول عليه السلام الناس، فهو بالروح والبدن ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ (الإسراء: من الآية 60).
قال: لكن الذي حاك في صدري أن تمَّت هذه الرحلة في وقت قصير، دون أن يصاب الرسول فيها بأذى من هول السرعة وتقلُّب الأجواء، ثم العروج إلى السماوات العلا؛ حيث لا توجد الأوساط المناسبة للحياة الإنسانية، ومع ذلك يعود الرسول إلى بيته حيًّا معافًى سليمًا، لم تزده الرحلة إلا نشاطًا دبَّ فيه من حباء الله تعالى له واختصاصه بالنعمة، وأن ذلك حاك في صدري، فلما كثرت المخترعات في العصر الحديث، وعرفت الطائرات ثم الطائرات النفاثة، وتفتيت الذرة والتليفون “والراديو” إلى آخر ما هناك، سهَّل ذلك عندي فهم الأمر الذي لم أكن أفهم، وإن كنت أعترف بأن هذا ليس كذاك.
قلت لصاحبي: إن هذا ليس كذاك كما تقول، وإياك أن يلتبس عليك أمر المخترعات الحديثة ومعجزات الرسل، فليست المخترعات إلا كشفًا للسنن الكونية، هدى الله العقول إليها بإرادته، كما هداهم منذ زمان إلى الزرع والسقي والحصاد والسياحة؛ مما يعتبر من البدهيات التي لا تلفت النظر لاعتيادنا لها وإلفنا إياها، ولو فكرنا وتدبَّرنا لوجدنا أن الزرع أدخل في باب الغرابة من الطائرة “والراديو”، وأما المعجزات فإنها مخالفة للسنة الكونية مخالفة تامة، ولو كانت غير ذلك لما كان فيها شيء من التحدي، ولا دلالة على صدق صاحبها، وإليك بعض أمثلة من القرآن الكريم تدلُّ على ذلك:
– ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 260)، فتقطيع الطير أجزاء يعدمه الحياة، ولم يعهد أن ما ذُبِحَ من الطير أو قُتِلَ عادت إليه الحياة مرةً أخرى، ولكن الله تعالى أراد أن يؤيِّد عبده ونبيه بمعجزة هي إحياء الطير الميِّت، واستجابته لدعائه له، وسعيه إليه، فهذه مخالفة للسنة التي سنها الله تعالى.
– ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)، والسنة التي خلقها الله ألا تكون النار بردًا وسلامًا، بل تكون محرقة مميتة.
– ومعجزة موسى عليه السلام هي معجزة العصا التي تصير حيةً تسعى.. غصن ميت من شجرة ينقلب حيوانًا، فإذا هو يلقف ما يأفكون، وليس في سنن الكون ما يحيل العصا حيوانًا، بذلك قد وقع لموسى مخالفة لهذه السنن، ولم يقبل عقل فرعون هذه المخالفة، بل قال حين آمن السحرة: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ (الشعراء: من الآية 49).
– ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 91).. ﴿..فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)﴾ (مريم)، ولو أن هذه العبارة لم تُذكَر في القرآن والإنجيل لما صدَّقها أحد لمخالفتها سنة الله التي استنَّها لبقاء النسل على الأرض ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ (الحجرات: من الآية 13)، ولكن الله تعالى أراد أن يجعله آيةً لنا ورحمةً منه فكانت إرادته.
هذا بعض ما جاء في القرآن من معجزات الرسل، وكله يسير على غير سنة ولا قاعدة ولا منطق ولا شيء مما عهده الناس أو كانوا يعهدونه أو سوف يعهدونه، وإنما هي إرادة الله الذي يستطيع وحده أن يخالف ما وضع لهذا الكون من سنن، ويضع ذلك لمن شاء.
كذلك كان الإسراء وكان المعراج مخالفَيْن لسنن الله التي جعلها لعباده، ومن أقدَرُ مِنَ الله على ذلك ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 82، 83).
———-
مقال لفضيلة الاستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للاخوان المسلمين رحمه الله نشره نشره “إخوان أون لاين” في 14 يوليو 2009 ضمن مقالات نادرة جمعها عبد الحليم الكناني وعبده مصطفى دسوقي
أضف تعليقك