مضحيًا ومجاهدًا في سبيل الله
يا أكرم الأكرمين، لقد خلقتنا ورزقتنا، فنحن وما نملك ملكٌ لك، ثم تَعرِض علينا أن تشتري أنفسنا وأموالنا- التي هي ملكٌ لك- بثمن غال، وهو جنة عرضها السماوات والأرض، فما أعظمها تجارة.. وما أربحها صفقة!!.
حقًا لكل صفقة شروط ومواصفات لكي تتم، وفي صفقتنا هذه يلزم توفر شرط الإيمان؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة:111)، كما يشترط إخلاص النية في الجهاد بأن تكون النية: “لتكون كلمة الله هي العليا” (البخاري ومسلم).
وأنت يا رب، الذي تمنُّ علينا بالإيمان، وتهبنا الإخلاص، فأنت صاحب الفضل كله. ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات:17).
أي إنسان عاقل تعرض عليه هذه الصفقة العظيمة الغالية ثم يرفض أو يتردد؟!
ونعلم أنك- يا رب- غنيٌّ عنا وعن جهادنا، ولكنه الامتحان، ولتمنَّ علينا بالأجر الكبير. ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت:6)، ﴿…ولوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد:4)، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال:17).
ولكنك- يا رب- تعلم أن نفوسنا جُبِلَت على حب المال وكراهية الموت، فتعالج ذلك فينا بقولك: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216).
وترغِّبنا في الجهاد والتضحية بالنفس والمال، بأسلوب محبب إلى النفوس فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصف من13:10).
ما أعظم الأجر وأجزله، نصر وسيادة في الدنيا، ثم مغفرة ونجاة من العذاب، ومساكن طيبة في جنات عدن في الآخرة!!
نعود ونقول إن من سلك طريق الدعوة لتحقيق أعظم وأشرف إنجاز في هذه الدنيا- وهو التمكين لدين الله الذي ارتضاه للناس كافة وحتى قيام الساعة- لا بد وأن يوطِّن نفسه على الجهاد والتضحية بالنفس والمال.
ورسولنا- صلى الله عليه وسلم- وصحابته- رضوان الله عليهم- ضربواْ لنا الأمثلة الرائعة في التضحية والجهاد، وعلينا أن نقتدي بهم؛ لنفوز بمثل ما فازواْ به، من سيادة وعزة في الدنيا، وثواب ونعيم- إن شاء الله- في الآخرة.
فدعوة الحق- المتمثلة في هذا الدين الحق- تتعرض وأهلها إلى الكيد والحرب من أعداء الله “أهل الباطل”، لعلمهم أنها إذا قَويَت دعوة الله ستزهق باطلهم، فهم يحاولون احتواءها إن استطاعواْ، كما حاول المشركون عندما عرضواْ على الرسول- صلى الله عليه وسلم- المال والسلطان فأبَى، فلجأواْ إلى التشكيك والصدِّ عنها، ووصفواْ الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالكذب والجنون والكهانة والسحر والشعر، مع أنهم قبل البَعثة كان عندهم الصادق الأمين.
ولما فشل أسلوب التشكيك والصد لجئواْ إلى الإيذاء والتعذيب، وهو أسلوب ضعيف الحجة، ولكن من يتذوق حلاوة الإيمان لا يفرّط فيه، ويتحمل ويصبر.
وعندما تتسع دائرة المؤمنين، وتتكون لهم قاعدة، لا يصلح التعذيب، ويلجأ العدو إلى القتال، وترفع راية الجهاد، ويتنزل نصر الله على عباده المؤمنين.
هذه سنة الله في الدعوات الحقة، ونجد آيات القرآن وأحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحث على الجهاد والفوز بالشهادة في سبيل الله، فيقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (آل عمران:169،170)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال:65)، وغير ذلك آيات كثيرة.
كما نجد أحاديث نبوية شريفة كثيرة حول الجهاد وشرف الجهاد في سبيل الله، والثواب الجزيل على الجهاد وعلى الشهادة في سبيل الله، نذكر منها:
*”عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: “لا تستطيعونه”، فأعادواْ عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: “لا تستطيعونه”، ثم قال: “مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد” (رواه الستة إلا أبو داود).
*”وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوته منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه” (الترمذي وابن ماجه).
حكم الجهاد:
وبالنسبة لحكم الجهاد في الإسلام، فالمعلوم أن أهل العلم- مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفا- أجمعواْ على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها.
ولقد مرت على الأمة الإسلامية فترة، والمسلمون مستذلون لغيرهم، قد دِيْست أرضهم، وانتهكت حرماتهم، وحكمهم الكفار، وأماتواْ روح الجهاد عندهم، ولكن هذه الحال أوجبت على كل مسلم أن يتجهز وينطوي على نية الجهاد وإعداد العدة للتحرر.
ولذلك عندما أنشأ الإمام الشهيد حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين؛ لإعادة بناء الدولة الإسلامية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية، حرص على بعث روح الجهاد في النفوس، فأطلق على دعوة الإخوان دعوة الحق والقوة والحرية، وجعل شارته (سيفان بينهما مصحف، وتحتها لفظ وأعدواْ)، رمزًا للآية الكريمة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال:60).
ثم نجد من هتاف الإخوان ضمن الشعارات (الجهاد سبيلنا)، (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، وكتب رسالة عن الجهاد.
وتحقَّق فعلاً بعث الجهاد في النفوس، ومارسه الإخوان عمليًا في فلسطين (انظر:الإخوان المسلمون في حرب فلسطين. للأستاذ كامل الشريف)، وضربواْ أروع الأمثلة، ولولا تآمر الأعداء وعملائهم من حكام العرب لتغير الحال.
كما مارس الإخوان الجهاد ضد الإنجليز، عند قناة السويس، بعد استشهاد الإمام (انظر: المقاومة السرية في قناة السويس للأستاذ كامل الشريف).
وتكررت ممارسات الإخوان للجهاد في أماكن كثيرة على الساحة الإسلامية. ولما كان وعد الله بالتثبيت والنصر والتمكين ورد في القرآن للمؤمنين. ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم:27)، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47)، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور:55)، لذا يلزم أن نتصف بصفات المؤمنين؛ لتتحقق لنا هذه الوعود، ولتتم لنا الصفقة الرابحة ونفوز بالجنة.
فعلى رجل الدعوة وجندي العقيدة أن يعرض نفسه على صفات المؤمنين الواردة في كتاب الله وأحاديث رسوله- صلى الله عليه وسلم- صفةً صفةً؛ ليتبين مدى التزامه بكل صفة منها، ويحرص على تحقُّق هذه الصفات عنده.
التضحية:
أما عن التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، فإن الشيطان والنفس الأمارة يدفعان إلى الخوف والجبن والشح والبخل، فلابد من مجاهدتهم وإيثار ما عند الله، فهو خير وأبقى.
فَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِمْهَا وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وآيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلها تحث على الإنفاق في سبيل الله والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وتوضح أن هذه الدنيا وما فيها إلى زوال، وأن الحياة الحقيقية الدائمة هناك في الآخرة، فالعاقل من أحسن التجارة الرابحة مع الله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:261).
يا أخي، إن كل نعمة أنعم الله عليك بها- من وقت وعلم وجهد ومال ونفس- هي رأس مالك في هذه التجارة الرابحة، فسخِّرْها جميعًا في حقل الدعوة والعمل والجهاد في سبيل الله، وفي سبيل التمكين لدين الله…
واعلم أن الواجبات أكثر من الأوقات، وأن الوقت غالٍ جدًا، فالوقت هو الحياة، وأن أي جزء من وقت يمر عليك- دون أن تستثمر فيه هذه النعم في سبيل الله- لن تعوضه مرة أخرى؛ لأنه لن يعود إلى يوم القيامة.
ثم إن فرصة هذه التجارة الرابحة معرضةٌ للانتهاء بين لحظة وأخرى بانتهاء الأجل، فقد يصبح أحدنا بين أهله، ويمسي وحيدًا في قبره، فالإسراعَ الإسراعَ إلى الخير. ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ (المؤمنون:61)، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يوضح لنا الثواب العظيم في جزئية من جزئيات العمل في حقل الدعوة “لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ من حُمُر النَّعَم” (البخاري ومسلم).
ومجالات العمل كثيرة، وكيف نبخل بنعم أنعم الله علينا بها، وهو صاحبها وقادرٌ على أن يستردها في أي وقت شاء.
فخيرٌ لنا أن نقدمها في مرضاته. فكلنا سيموت فلِمَ لا نحسن صناعة الموت، وتكون شهادةً في سبيل الله.
وكلنا سيترك ماله وراءه، ويواجه الحساب حوله من أين جمعته؟ أمن حلال أم من حرام؟ وهل أديت حق الله فيه؟ فالخير كل الخير أن نقدمه في سبيل الله ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ (المزمل:20)، ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد:38).
فإلى الجهاد والتضحية وإلزام أنفسنا بصفات المؤمنين وبكل التعاليم التي في كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وكلنا ثقة واطمئنان أن الله معزُّ جنده، وناصر دينه، ومظهره على الدين كله، ولو كره المشركون: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:33)، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران:126).
منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.
أضف تعليقك