بقلم.. وائل قنديل
ثمّة إشكالية في تعريف السيد عمرو موسى، الذي تحدّث في القاهرة أول من أمس الأربعاء في افتتاح مكلمة وطنية هائلة تحت مسمّى “الحوار الوطني”، فخطف الأضواء وفرض نفسه نجم الحفلة وأشعل مواقع التواصل الاجتماعي.
هل تبدأ بأنه وزير خارجية مصر المباركية في واحدة من أدفأ مراحل العلاقة الرسمية بالكيان الصهيوني، وبالرغم من ذلك صار شخصيةً رئيسيةً في أغنية شعبية تكره إسرائيل؟ أم هو الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الذي صار من لجنة حكماء ثورة يناير 2011، ثمّ مرشّحًا للرئاسة مدعومًا من السعودية، محققًّا المركز الرابع في ترتيب الأصوات؟ أم هو واحدٌ من كهنة الثورة المضادّة في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 وانقلابها العسكري ورئيس لجنة صياغة دستورها في 2014، وهو الدستور الذي عبثت به الأيدي الحاكمة المسيطرة الباطشة في العام 2019 من دون أن يُسمع له صوت؟
أمام هذه الغابة من المناصب والتوصيفات، أزعم أنّ الأنسب أن نكتفي بتعريفه بكلمة واحدة: الديبلوماسي الشاطر، وهو ما تجلّى أول من أمس في كلمته الطويلة جدًا في افتتاح حوار وطني لم يهتم الداعي له بالحضور لافتتاحه، مكتفيًاً بكلمة مسجّلة عبر تقنية الفيديو، وهو محقُّ في ذلك، بالنظر إلى أنه يقف على المنصّة ذاتها ويمسك بالميكروفون ذاته واحد من المعلمين الكبار في الكلام المرتّب والخطابة الآسرة التي تسحر الجمهور، وتجعله يقارن بين السفسطة منعدمة القيمة والخطاب الرصين.
استغرقت كلمة عمرو موسى 19 دقيقة تقريبًا، واشتملت على لمحاتٍ تخطف أنظار الجمهور من خطيب محنّك في نحو 32 كلمة تفاعل معها الجمهور، وهي كالتالي “الناس يتساءلون عن الحرّيات وضماناتها؟ ثم كان الناس يتساءلون عن مصير المحبوسين احتياطياً؟ والذي آن الأوان في الواقع للتعامل المباشر والفوري والشامل مع هذا الملفّ لنغلق نهائياً ونتوجّه إلى ما هو أهم وأبقى”. ضجّت القاعة بالتصفيق لمجرّد أنّ السيد عمرو موسى طرح المطروح منذ سنوات من تساؤلات وهواجس ومخاوف، واضعًا علامات استفهامٍ خجلى، من دون أن يذكُر أو يتذكّر المئات من المغيّبين في السجون منذ بداية العهد السعيد الذي استرسل في بيان إنجازاته العظيمة لاحقًا.
كان من المتصوّر، مثلًا، أن تكون مقاربة عمرو موسى من مسألة المحبوسين احتياطيًا أوسع وأشمل قليلًا من محدّدات الشلل الحقوقية والسياسية الضيقة التي تسقط من حساباتها المغيبين والأسرى منذ انقلاب 2013، فكان حريًا به، وهو الديبلوماسي، أن يتذكّر، مثلًا، سفيرًا نابهًا ووطنيًا حقيقيًا، هو محمد رفاعة الطهطاوي، ويسأل: لماذا يبقى هذا المواطن المحترم في زنزانته منذ أكثر من عشر سنوات؟
كان يصحّ، ما دام، قد امتطى حصان الجرأة في التساؤل، أن يسألهم عن منافسه الذي تفوّق عليه في الأصوات بالانتخابات الرئاسية 2012 الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية، والذي يقبع في زنزانة مقبضة منذ سنوات، لأنه تجرّأ ونصح النظام ببعض الأمور … لماذا هذا السياسي الوطني في السجن؟.
بالطبع، لا يشغل السيد، عمرو موسى، نفسه برفع الظلم عن هؤلاء، فالرجل ملتزم بمصطلحات المرحلة “سجناء الرأي والمحبوسون احتياطيًا من لون سياسي معين”، وفقط!
في مقابل هذه العبارات الخلابة التي أعجبت الجمهور، أنفق عمرو موسى أكثر من نصف كلمته في بيان وشرح الإنجازات العظيمة للعهد الذي أشرف على كتابة دستوره، فتناول ثمانية إنجازات عاب على الجميع أنهم لم يبرزوها كما يجب، وها هو قد امتشق الميكروفون ليُبرزها ويحيي صاحب الفضل فيها.
وهو يعدّد الإنجازات، استرسل، عمرو موسى، في البند رابعًا، ليقول: “رابعاً: أعلت الدولة، الحكومة، الرئيس؛ قيم المواطنة، وأنه لا تفرقة بين مواطن وآخر بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو المكان الجغرافي كما نصّ الدستور. وهذا تقدّم عظيم لا شك فيه”. عند هذه النقطة تحديدًا، يمكن القول إنّ عمرو موسى منفصلٌ عن واقع كريه يقول إنّ العهد ونظامه يقتل الناس على الهوية، كما جرى في ميداني رابعة العدوية والنهضة، ويخوّن الناس ويحرمهم من حقوقهم الأساسية، المحمية بالدستور، كمواطنين، فيضع من يعارضه على قوائم الإرهاب، ويمكن لأي معارضٍ أن يجد نفسه محرومًا من جواز سفره وبطاقة هويته، لأنّ صاحب السلطة الباطشة قرّر أن يجرّده من مواطنته.
قال عمرو موسى إنّ من نقاط العهد المضيئة تمهيد الطريق للحكم المدني، وصباح اليوم التالي كان صاحب دعوة الحفلة قد ذهب يعقد حوارًا وطنيًا مع القوات المسلحة، تاركًا أهل حفلة الحوار الوطني يتنافسون في الخطابة على طريقة مبارك “خلّيهم يتسلوا”.
أضف تعليقك