بقلم: د. علي محمد الصلابي
جاء مصطلح الهوية في اللغة العربية من كلمة: هو. والهوية هي مجمل السمات التي تميِّز شيئاً عن غيره ، أو شخصاً عن غيره ، أو مجموعة عن غيرها ، كلّ منها يحمل عدة عناصر في هويته ، عناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة ، وبعضها الاخر في مرحلة أخرى.
ويقول التحليل النفسي على «هوية نحن ـ أنا»: فلا توجد هوية «أنا» بدون هوية «نحن» ، والهوية تخرج عن عملية تاريخية وحضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد ، فالمجتمع يتكون من ممارساتنا وعلاقاتنا المتبادلة ، وإن لم تكن هذه العلاقات «حرة» ، فهي ليست قوى طبيعية ، لا يوجد الفرد إلا في مجتمع ، ويتوقف التفرد على نمط التنظيم الاجتماعي ، ولقد فرضت الدولة ـ الأمة بنفسها بالتدريج كصبغة غالبة للنحن المجتمعية.
وتأسيساً على المقاربة الفلسفية تعبِّر الهوية عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميّزه عن غيره ، كما تعبِّر عن خاصية المطابقة ، أي: مطابقة الشيء لنفسه ، أو لمثيله ، وبالتالي فالهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات [أزمة الهوية والثورة على الدولة ، د.عبير بسيوني رضوان، ص 86].
وتستعمل كلمة «هوية» في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه ، أو مطابقته لمثيله ، وفي المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون ، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة ، المشتملة على صفاته الجوهرية ، والتي تميز عن غيره ، وتسمى أيضاً: وحدة الذات.
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي بكلمة هوية ، أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث ، فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير ، وهو يشمل الامتياز عن الغير ، والمطابقة للنفس ، أي: خصوصية الذات ، وما يتميز به الفرد أو المجتمع من الأخيار من خصائص ومميزات ، ومن قيم ومقومات.
وللهوية أشكال ، الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم ، والهوية الشخصية ، والهوية الجمعية ، والهويات القومية أو الوطنية.
وللهوية عوامل تسهم في تكوينها، منها:
العامل الثقافي في الهوية:
الثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية أصلاً، فهي تعني صقل النفس والمنطق
والفطانة ، وفي القاموس المحيط: ثقف ثقفاً وثقافة: صار حاذقاً خفيفاً فطناً ، وثقفه تثقيفاً: سوَّاه، وهي تعنى بتثقيف الإنسان وتسويته فكراً ووجداناً، وتقويمه سلوكاً ومعاملة ، واستعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقيّ الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات ، والثقافة ليست مجموعة من الأفكار فحسب ، ولكنها نظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالاً ، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي يتطبع عليه شعبٌ من الشعوب ، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات ، بما تقوم به من العقائد ، والقيم ، واللغة ، والمبادئ ، والسلوك ، والعادات ، والقوانين ، والتجارب.
ويرتبط مفهوم الثقافة بمجتمع معيَّن ومحدد الهوية ، في حين أن مصطلح «حضارة» يُستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعاً ، وأكثر شمولاً في الزمان والمكان ، كما يُستخدم مصطلح «حضارة» للدلالة على المجتمعات التي بلغت درجة عالية من التطور ، وتتصف بالتقدم العلمي والتقني والتنظيم المدني والاجتماعي.
وفي الجملة فإن الثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن: المعارف ، والعقائد ، والفنون ، والأخلاق ، والقوانين ، والعادات.
وتتميز الثقافة عموماً بعدة خواص ، منها:
_خ أنها ظاهرة إنسانية ، أي: أنها فاصل نوعي بين الإنسان وسائر المخلوقات ؛ لأنها تعبير عن إنسانيته ، كما أنها وسيلته المثلى للالتقاء مع الاخرين.
_خ أنها تحديدٌ لذات الإنسان ، وعلاقته مع نظرائه ، ومع الطبيعة ومع ما وراء الطبيعة ، من خلال تفاعله معها ، وعلاقته بها ، وفي مختلف مجالات الحياة.
_خ أنها قوام الحياة الاجتماعية وظيفة وحركة ، فليس من عمل اجتماعي أو فنّي جمالي أو فكري يتم إنسانياً خارج دائرتها ، وهي التي تيسِّر للإنسان سبل التفاعل مع محيطه مادة ، وبشراً ، ومؤسسات.
_خ أنها عملية إبداعية متجددة تُبدع الجديد والمستقبلي المعبر عنها ، فالتفاعل مع الواقع تكييفاً أو تجاوزاً نحو المستقبل ، من الوظائف الحيوية لها.
_خ أنها إنجاز كمِّي مُستمر تاريخياً ، فهي بقدر ما تضيف من الجديد تحافظ على التراث السابق ، وتجدّد قيمه الروحية والفكرية والمعنوية ، وتوحِّد معه هوية الجديد روحاً ومساراً ومثلاً ، وهذا هو أحد محركات الثقافة الأساس ، كما أنه بعد أساسي من أبعادها.
وثمة علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة بحيث يتعذر الفصل بينهما ، إذ ما من هوية إلا وتختزل ثقافة ، فلا هوية بدون منظور ، وخلفية ثقافية ، فالثقافة في عمقها وجوهرها هوية قائمة الذات ، وقد تتحد الثقافات في الهوية الواحدة ، كما أنه قد تتنوع الهويات في الثقافة الواحدة ، وذلك ما يعبِّر عنه بالتنوع في إطار الوحدة ، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة ، تمتزج عناصرها ، وتتلاقح مكوناتها ، فتتبلور في هوية واحدة ، وعلى سبيل المثال: فإن الهوية الإسلامية تتشكل من ثقافات الشعوب والأمم التي دخلها الإسلام ، سواء اعتنقته ، أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها ، فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية ، وتلاحقت معها ، هي جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة الإسلامية ، وهي بذلك هوية إنسانية متفتحة وغير مغلقة [أزمة الهوية والثورة على الدولة ، د.عبير بسيوني رضوان ص80].
2. العامل الديني في الهوية:
فالدين هو أحد مكونات الثقافة ، والدين الإسلامي ساهم في الهوية الإسـلامية التي تقـوم على أربعـة أسـس وعنـاصر: «العقيـدة ، التـاريـخ ، اللغة ، الأرض». وتجمعت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة بمجموعها عن الهويـة الإسـلامية ، وقد تضيـع هـذه الهويـة إن ضـاع الفرد عن دينه ؛ لذلك قال تعالى: َ {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ *} [التوبة: 122] .
وقال جل علا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] .
وخيرية هذه الأمَّة نابعة من استقلاليتها التشريعية، والعقائدية ، والسلوكية، عن غيرها من الأمم الأخرى ، وهنالك متربصون بهويتنا الإسلامية وأمتنا ، كما قال تعالى: َ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [البقرة: 109 ـ 110] .
وهنالك تقارير معاصرة يتضح منها أنَّ أعداء الإسلام يريدون محق الهوية الإسلامية الصحيحة ، وإزالتها.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32].
إن مفهوم الهوية يشير إلى ما يكون به الشيء هو هو ، أي: من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره ، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري.
فالهوية ملازمة للمواطنة ؛ لأن المواطنين يحتاجون إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ، وقوانين تحكم هذه العلاقة ، وتبني هذه العلاقة على اتجاهات وقيم ومعتقدات وعادت وتقاليد وموروث ديني واجتماعي يطلق عليه الهوية ، وعلى ذلك يمكن القول: إن الهوية هي مجموع من الخصائص والسمات المعينة تتميز بها أمة عن أخرى ، ومجتمع عن مجتمع اخر ، وفرد عن اخر ، والهوية يمكن أن تكون ثابتة حسب محافظة الأمة عليها ، وتتحول حسب تحول الواقع [المواطن والمواطنة، د. علي الدوسري، ص 38].
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “المواطنة والوطن”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: “أزمة الهوية”، للدكتورة عبير بسيوني.
المراجع:
أزمة الهوية، د. عبير بسيوني رضوان.
المواطن والمواطنة، د. علي الدوسري.
المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2014م.
أضف تعليقك