نعم، شهر رمضان هو شهر التحرر من العبودية؛ عبودية النفس والعبودية للغير، ولا يكون التحرر من العبودية للغير إلا بالتحرر -أولا- من العبودية للنفس، بسوقها إلى مجالات الخير والطاعة، وإرغامها على الصراط المستقيم، وتجنيبها المزالق والمهالك، وهذا كله يحتاج إلى صبر وفطنة، وحسن سياسة، وتدرج فى الطلب، كما يحتاج إلى عزيمة وإرادة.
إن النفس كالطفل، إن فطمتها تنفطم، وهى طوع أمرك، وحصانك الذلول مادمت قائمًا عليها بالحق والقسط، قيمًا عليها، لكن إن انفلتت فلا راد لفسادها وفجورها إلا خالقها وباريها.
ورمضان فرصة لتقوى القلوب، وتعويد النفس الخير، وقيادها إلى مواطن الهدى والرشاد، ففيه الصبر، وهو شطر الإيمان، وفيه الحلم، وهى صفة يحبها الله ورسوله، وفيه كف الشهوة، وفيه الاستعلاء عن نقائص البشر، فالصائم ملك، يعلو على تلك الأراذل الجسدية التى حطت قدره، وأوردته أرضًا مسبعة، وقيدته بقيود حديدية، وأشواك لا فرار منها.
يفر الصائم إلى ربه، مودعًا ما كان عليه من أوهاق الجسد، وأوزار النفس، فهو حر الآن، لا تغريه شهوة ولا تستهويه نزوة، وما أجمل أن يكون الإنسان حرًا، وما أجمل أن تكون هذه الحرية مقترنة بطاعة ربانية، هنا يكون كمال الحرية، وكمال العبودية- فى الوقت ذاته- لكنها العبودية لله، التى تنتج إنسانًا كامل المروءة، عظيم البأس، ذا إرادة صلبة وعزيمة لا تنثنى.
إن من شأن الإنسان صاحب الإرادة، الذى صام الصوم الصحيح، واستكمل شهره على الوجه الذى أراده الله ألا يكون إمعة، مترددًا، متذبذبًا، متلجلجًا، وإنما حبله على غاربه، يميز بين الخطأ والصواب، والحلال والحرام، فى زمن اختلطت فيه الأمور، وصار الناس لا رأى لهم، يتبعون كل ناعق، ويدخلون جحور الأعداء والخصوم، غير هذا الذى صح صومه، فصح رأيه، فعرف حقه، فهو ليس تابعًا، ولا يمكن أن يكون تابعًا، فإنما الأتباع هم عبيد شهواتهم، صرعى ملذاتهم، من يجرون وراء مصالحهم، وهؤلاء لو ملكوا الدنيا ما شبعوا، ولو طلب منهم بيع أعراضهم مقابل لعاعة من لعاعاتها لفعلوا، ما تردووا.
يجىء الشهر الكريم ليوجه المسير؛ وليقول لمن اتخذ إلهه هواه، هذا نقطة نظام؛ انظر فى نفسك، وصحح خطأك، ولا تعد كما كنت سابقًا، تدور فى الدنيا دوران البهيمة، بل أنت عزيز بعزة الله ورسوله، عال كالمؤمنين، وقد آن الأوان لتدفع ضريبة هذه العزة وذلك العلو، وهذا لا يتطلب منك سوى تغيير عاداتك، وإعادة النظر فى نياتك، وتوجبه نفسك الوجهة الصحيحة، تلك الوجهة التى جُبل عليها الأسلاف الكرام، فجمعوا ما ضيعنا، وحازوا ما فرطنا، وعزوا من بعد ذل، وانتصروا وسادوا فكان الواحد منهم يخرج شابًا من بلده الذى ولد فيه، فلا يعود إليه إلا شيخًا طاعنًا لا تحمله قدماه، راضيًا مستبشرًا، قد أدى ما عليه وزيادة، ولو نظرت إلى إمكاناته وعدته فإنها لا تزيد على نفس تقية أبية رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولا، وعافت الذل والظلم والقهر، ولم ترض أن تعيش رقمًا منسيًا على هامش الحياة.
إنه شهر الهدى والنور، شهر التقوى، إنه المحضن التربوى العظيم الذى يسع الجميع، إنه السوق التى لا تنفض، والمتجر الذى حوى سلع الدنيا والآخرة، ويا لسعد من اتجر فيه فربح، ويا لخسارة وشقاء من صد عنه ونئا بجانبه فلم يزره، إنها الخسارة الكبرى؛ خسارة الدنيا والآخرة..
إن الذين يبحثون عن معانى الحرية الحقيقية، يجب أن يبحثوا عنها فى هذا الشهر الفضيل، فهنا لا يعطى المسلم الدنية لأحد -أيًا كان- وهنا الثقة بالنفس، والاستعلاء بالإيمان على أهل البطر والكبر، هنا يرفع المسلم رأسه، فلا يحنى جبينه لآدمى مثله، ولو هدد بإسالة دم هذا الجبين الطاهر، هنا لا يكون المسلم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكنه يوطن نفسه، إن أحسن الناس يكون محسنًا، وإن أساءوا فلا يظلم.. وبتلك الشخصية السوية الربانية تكون الأمم الفاضلة والشعوب المتحررة، خلافًا لما نراه الآن من فوضى وانهيار قيم وتوسيد الأمر لغير أهله حتى كدنا ننتظر الساعة.
يا من اتبعتم الشياطين؛ شياطين الإنس والجن!!، أفيقوا يرحمكم الله، فهذا شهر الله الخالد، جاءكم بفيوضاته، وخيره وبره، فاغتنموه واتبعوا رضا الله، فإن استجابتكم لهؤلاء الأبالسة لن تغنى عنكم من الله شيًا، يوم يفر هؤلاء من لقياكم ويتخلون عنكم، بل يفر المرء يومئذ من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
حرروا أنفسكم من قيود الشهوات، ومن أسر الدنيا، ومن التبعية للحكام الظلمة الفسدة، الفجرة الذين يحاربون الدين ويضيعون القيم؛ إذ لا نصر ولا علو ولا تقدم إلا بالمعاناة أولا، والصبر على طاعة الله.. هكذا يقول كتاب الله الخالد: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
أضف تعليقك