لاكتمال البهجة، فقد تمنيت أن يكون حوار الأخ الأستاذ عبد الفتاح السيسي على الهواء مباشرة، لكن لأن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد كان الحوار مسجلاً، وقد خضع للمونتاج، لكن مع ذلك فقد عشنا «نصف البهجة»، فعلى ما يبدو أن من قام بعملية القص واللزق، ليس متخصصاً فربما يكون «كهربائي سيارات»، فتسرب منه ما مثل مادة للتسلية والبهجة، وربما لأن الرجل أرهق من كثرة العمل، فتسربت المقاطع الممتعة في هذا الحوار، الذي افتقد طرفيه المهنية، فلم يكن المحاور محاوراً، ولا الرئيس رئيساً!
الحوار أذيع كما هو معروف في القنوات التلفزيونية المصرية كلها، ما ظهر منها وما بطن، وبشكل يقضي على ما يعرف بالسبق الإعلامي، فلم تنفرد به قناة «القاهرة والناس» التي يعمل فيها المذيع، والذي من الواضح أنه استدعي لإجراء الحوار، ليفقد علاقته به بمجرد أن وجه الشكر لصاحبه على «سعة صدره»، تماماً كما يتم في بعض الندوات عندما يتم استدعاء أحد المذيعين ليقدمها بالأجر، وينتهي دوره بانتهاء المهمة، والدليل أن «مذيع السيسي» فوجئ مثلنا بالجزء الثاني، وقد انتقل لبداية الحوار، وإن كان لم ير في هذا مشكلة، وهذا الاعتراف منه جاء بعد أن وقفت الجماهير على أن تبديلاً قد حدث، لأن المذيع قال للسيسي في البداية «نرحب بك للمرة الثانية»!
ومن الواضح أن هذا كان بعد «الفاصل»، وقال من أدار الحوار إنهما لم يخرجا إلا فاصلاً واحداً، يبدو أن النية كانت تتجه للتأكيد على أن الحوار على الهواء مباشرة، فما لزوم الفاصل في حوار مسجل؟! لولا أن عملية تسجيله تسربت، وهذا الاستبدال الذي حدث دون إدراك الترحيب للمرة الثانية، كاشف عن أن من قام بالمونتاج فعلاً «مكوجي»، وربما كان العمل الذي قام به مرهقاً فكان طبيعيا أن تقع بعض هذه الأخطاء فقد حذف منه الكثير من المقاطع التي تصلح للبرنامج الإذاعي القديم «ساعة لقلبك»!
من الأخطاء التي وقع فيها السيسي فأضحك المشاهدين، ومثلت مادة للتندر والفكاهة، عندما شكره المذيع لسعة صدره، وهو يرد عليه بأن صدره ليس واسعاً، وربما ظن أن اكتشاف سعة صدره سيتبعه قيام المذيع بأخذ «مقاس صدره» بالسنتي متر، فأراد أن يعفيه من هذه المهمة بأن صدره ليس واسعاً، ولا يصلح للدخول به في مسابقة «أعرض صدر في العالم»!
وهذا أمر له علاقة بالفلاتر، فقد سبق للسيسي في حضرة رهط من المثقفين أن قال إنه يتعذب عندما يتكلم، لأن الكلام يمر عنده عبر «فلاتر»، فلتر الصدق، وفلتر الأمانة، الخ الخ، ولهذا هو يتأخر في الكلام، عندئذ لمعت عينا الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي انبهاراً بهذه الشخصية المعملية الفذة، على نحو أنهى ما انتهى إليه العلم بأنك تستطيع أن تعرف حقيقة موقف الإنسان بالنظر إلى عينيه، فالعين لا تكذب، وقد أثبت هذا المشهد أن العين تكذب وتنافق!
اللافت أن «الفلاتر» ليست مخرجات فقط، ولكنها مدخلات أيضاً، لا يمر عليها الكلام خارجاً وحسب، ولكنها تستقبله داخلاً، ومن جراء عملية «الفلترة» و»التنقية»، فإن عبارة «سعة الصدر»، وصلت السيسي بمعنى غير المراد لها، تماماً كما حدث ومذيعة التلفزيون الكوري تلملم أوراقها في نهاية مقابلة تلفزيونية معه، عندما شكرته على إجاباته التي أثبتت أنه «رجل دبلوماسي»، فتصرف كما لو كانت ستدون هذه الوظيفة في شهادة الميلاد، وباغتها بقوله «رجل عسكري»، فكشف عن قدرة متواضعة في الاستيعاب!
الحوار الدردشة
ثلاثة دوافع حرضتني على انتظار هذا الحوار والاستماع إليه، الأول: أن محطة تلفزيونية كانت قد اتفقت معي على التعليق عليه. والثاني: لتحقق البهجة فالقلوب تمل. والثالث: لأن الحوار بمناسبة مرور عامين على توليه الحكم، فمن المتوقع أن يعرض «كشف حسابه»، وظننت أنه بهذه المناسبة سيعرض لنا كشفاً بالانجازات غير الملموسة أو المحسوسة، التي يقوم بتخبئتها خوفاً من الأشرار، وحتى لا نضطر لأن نرسل رسولاً للأسرة، عندما تدركه المنية، لنعرف هذه المشروعات وأين تقع، حتى لا يطويها النسيان، وتتعامل معها الأجيال القادمة ككنز، والأحاديث لا تنتهي عن الكنوز التي في باطن الأرض من الذهب والياقوت التي تركها الفراعنة، وأهمية الزئبق الأحمر في رشوة الجان، ليمكن الإنس من الاستيلاء عليها!
لا أنكر أن دافعاً من هذه الدوافع قد تحقق، فقد ابتهجت بهذا الحوار «الدردشة»، وقد سقطت الأسطورة التي سعى البعض لصنعها له، بوصفه بالمسيح، وعبد الناصر، وأيزنهاور، فها نحن أمام حالة إنسانية بائسة، وكلما استمعت له شعرت بالراحة، لأني بذلت في البداية جهداً كبيراً من أجل أن يتعرف الناس على السيسي الحقيقة لا الأسطورة، وها هو بنفسه يحطم هذه الأسطورة عندما يتكلم فلم يبق منها شيء!
بيد أنه لم يشأ أن يضللنا في هذا الحوار، بالحديث عن الأوهام بعد تحريض المذيع لذلك، بحديثه عن العاصمة الجديدة، مع أن المشروع انتهى تماما، وعن شعور الناس الآن بالأمان!
لم يكن لائقاً وإيرادات قناة السويس تنخفض عن السنوات الماضية أن يتحدث عن «المشروع العملاق» بإنشاء القناة الجديدة، وبعد المقابلة هذه تم الإعلان عن تخفيض رسوم عبور القناة للسفن وللمسافات البعيدة إلى (65) في المئة.
ولم يكن لائقا أن يعد مرة ثانية بانخفاض الأسعار، فقد وعد من قبل وزادت هذه الأسعار بشكل دفع كثير من الأسر إلى أن تكمل عشاءها نوماً. أحد أصدقائي من السيساوية قال لي: لقد ورثنا عبارة لا أحد ينام بدون عشاء، أنا أقول لك إن كثيرين الآن ينامون بدون أن يتناولوا وجبة العشاء!
ولم يكن لائقاً أن يبشرنا بمستقبل واعد والجفاف يضرب الأرض المصرية بقوة، وقد شاهدناه على شاشة القنوات المصرية، واعترفت وزارة الري بأن السنة المقبلة هي سنة الجفاف. ولا يجوز الآن أن يتحدث عن نجاح المؤتمر الاقتصادي الذي وصفه بأنه ذراع مصر، وضرب بيده اليمنى على يده اليسرى بعنف، ولم يعد فشله ينكره أحد.
رفع الروح المعنوية
سأله المذيع عن الجدوى الاقتصادية لبعض المشروعات، ونسب هذا للبعض، فكانت الإجابة كاشفة عن الجدوى!
بحسب كلامه، فقد تحقق تقدير العالم، ثم وهذا هو المهم، فقد كان المطلوب أن يعرف المصريون أنهم قادرون، وأن هذه المشروعات هي محاولة لإثبات الذات المصرية أنها قادرة. وأن الهدف هو رفع الروح المعنوية للمصريين.
وعندما سأله المذيع (جاره بالجنب فلم يكن مذيعاً بالمعنى المعروف) عن أن هناك من يسألون عن دراسات الجدوى للمشروعات؟ كان جوابه: «خلي بالك امتلاك القدرة دا هدف». وقد أبدى المذيع إعجابه بعبارة «امتلاك القدرة»، باعتبارها اصطلاح جديد صكه السيسي في عالم الفهم والمفهومية، وأوشك أن يهتف: «تكبير»!
لقد استدانت الدولة من المواطنين (60) مليار جنيه، وبعمولات مرتفعة، وأنفقت (20) مليار جنيه على «ترعة» عديمة الجدوى الاقتصادية، أسموها قناة السويس الجديدة، وإذا بالهدف هو إثبات الذات، ورفع الروح المعنوية، والتأكيد على امتلاك المصريين للقدرة!
نصائح هيكل
كان من الواضح أنه ليس لدى السيسي ما يقدمه، لكن محمد حسنين هيكل نصحه بالتوقف عن ترديد هذه النظرة السوداوية، فلا بد من زرع الأمل ولو بالوهم، فكانت تصريحات مثل «أم الدنيا وستبقى أد الدنيا». وهيكل الذي لم يكن عنده سوى «كتالوغ» الخمسينيات والستينيات، هو صاحب فكرة المشروع الوطني الجامع، الذي تبين أنه كالحمل الكاذب، سرعان ما انكشف أمره!
وصار السيسي الآن أقرب إلى طبعته الأولى، عندما قال: «أنا لو أقدر أديك أديك»، في مرحلة «ما فيش»، فقد مات هيكل، وترك لنا ذكرى عطرة، تمثلت في مقابلته الشهيرة مع «لميس الحديدي» بمناسبة انعقاد المؤتمر الاقتصادي، وهو يبيع الوهم، ويتحدث عن النجاح، وعن شموخ مصر الذي تمثل في «خطوة» السيسي الواثقة في المؤتمر، وقال إن السيسي بهذا النجاح أكد أنه تجاوز فكرة «رئيس الضرورة»، إلى «الرئيس بالاختيار». ولم يلزمه ببرنامج فقد فكه من هذا الالتزام في البداية، عندما قال إنه «مرشح الضرورة»!
انتهت النشرة، بصوت جميل عازر، الذي طالت إجازته، ولم يعد أمام السيسي ما يقدمه ولو في «سوق الكلام»، ولم يجد القوم ما يفعلونه إزاء هذا الفشل إلا التمسك بلغة العواطف فمن حاوره قال: «حوار السيسي له مذاق خاص»، وكأنه يصف طعم فنجان قهوة «محوج»، ولميس الحديدي لم تجد في المقابلة ما يستحق التعليق عليه إلا ابتسامة حضرته، فأعلنت «أنا بحب ابتسامة السيسي». فهذه الابتسامة أشعرتها بالأمان العاطفي، وقالت إن المصريين شعروا بالأمان بمجرد أن ارتسمت على وجهه. والمعنى أنه لا يوجد في كلامه ما يستحق الاحتفاء ويشعر الموطن بالاطمئنان على حاضره ومستقبله، فكان اللجوء إلى لغة المشاعر الجياشة.
ومن ناحيتي أقول، إن جمال هذه الابتسامة سيكتمل بعملية زرع شعر، تتفوق فيها تركيا، وقد يكون هذا بعد المصالحة بين البلدين، ليكتمل الشعور بالأمان، ويصبح المذاق بطعم الشاي بالصنوبر!
أنتم لم تجربوا الشاي بالصنوبر!
أضف تعليقك