حدثنى صديق أنه قاب قوسين أو أدنى من الحصول على وثيقة هجرة لإحدى دول الغرب، وقد باع لأجل ذلك جل ما يملك، وصديقى هذا ليست له أى اهتمامات سياسية، بل يعيش لمهنته التى برع فيها وبز أقرانه، ويعيش لأسرته الصغيرة التى لا يحرمها من شىء من طيبات الدنيا، وقد وسع الله عليه وأتاه مالاً وعقارًا، أما سبب هجرته وأسرته فلأنه لم يعد آمنًا فى هذا البلد -حسب قوله- فإن ذهب إلى عمله وترك زوجته وابنتيه فى المنزل ظل قلبه مرتجفًا حتى يعود إليهن، وهو فى طريقه إلى العمل لا يخلو مشواره من احتكاكات، فضلاً عما يصطدم به نظره وسمعه من فحش القول وبذيء الكلام، ناهيك عن المعاملات اليومية مع من حوله والتى أدخلته -بالفعل- فى دائرة الاكتئاب؛ حيث الأثرة وسوء الخلق، والكذب والخداع، والنصب... إلخ.
وحدثنى صديق آخر أنه اضطر فى موقف ما أن يستعين ببلطجى على آخر تسلط عليه واستضعفه، وقد علم أن الجهات الرسمية لا تقدم ولا تؤخر، فاستأجر هذا البلطجى بعد ما نصحه الأصدقاء بذلك، ليُفاجأ أن فى المجتمع فئة لا يُستهان بعددها تعيش على تلك المهنة، وفى داخلها أسرار وكوارث، والدولة على علم بهذا لكنها تغض الطرف لفشلها فى القيام بدورها أو لأن بعض موظفيها شركاء فى هذا (البيزنس) الحرام.
القضية إذًا ليست بسيطة كما يتصور البعض، بل هى -بكل تأكيد- معول هدم شديد لهذا المجتمع الذى ظل قرونًا يُضرب به المثل فى المروءة ومحاسن الأخلاق، أما لماذا انتكست الأخلاق بهذه الصورة؟ فلأن الناس على دين ملوكهم، فإن صلح الحاكم صلحت الرعية، وإن فسد فسدت، أو كما قيل لعمر: عففت فعفت الرعية ولو رتعت لرتعوا، وقد ابتلينا -كما هو معلوم- منذ أكثر من ستين سنة بحكام علمانيين فسدة، نحوا الدين والأخلاق جانبًا، بل حرضوا عليها، وفرضوا على الناس أخلاقًا فاسدة، وقيمًا ما أنزل الله بها من سلطان كرست فى المجتمع ما نراه الآن من هلع وغضب وحب نفس وعدم توقير كبير أو عطف على صغير أو تقدير لامرأة.
والظلم أيضًا عامل أساس فى فساد الأخلاق وانهيار القيم، وكيف لا والمظلوم قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه، فهو فاقد لقيادتها، قد يرتكب لرد مظلمته جريمة القتل، وإذا كان هذا يتم لمظلمة واحدة فما بالك لمن صارت حياته كلها مظالم وإحن، إنه يعطى لنفسه العذر فى ظلم الآخرين الذين لم ينصفوه، فهو لا يتورع عن شتم هذا وسب هذا وأكل مال هذا، ألم أقل إنه استحل الظلم فى مجتمع قد ظلمه ولم يجد فيه النصفة؟
ولضغوط الحياة والفقر دور فى ذلك، وهما من آثار الحكم السياسى الفاسد، ومن حكام باعوا البلد وأودعوا ثمنه فى بطونهم وفى بنوك الغرب، فصار الناس فريقين؛ فئة قليلة يستولون على جل أموال وخيرات البلد، وأغلبية عظمى تعيش تحت خط الفقر، فنشأ ما يعرف بفوارق الطبقات، ومعلوم آثار تلك الفوارق، وقد رأينا دولا -قديمًا وحديثًا- تدفع ثمن ذلك من استقرارها وسلمها الاجتماعى على إثر الفوضى التى عمتها جراء ذلك الظلم وانحصار المال فى الأغنياء منهم.
وغابت الأخلاق كذلك عندما غابت القدوة، واختفى (الكبير)، وعندما ظهر الفساد فى بيئات التربية (البيت، المدرسة، وسائل الإعلام)، فبدلا من أن يربى الطفل على القيم النبيلة فى هذه البيئات صار يربى على (الروشنة) و(السلطنة) و(الخفة) وغيرها من الأخلاق الرذيلة، التى تعف الفطر السليمة عن اقترافها بل الاقتراب منها.
ولن نفصّل القول فيما نتج وينتج عن ذلك الانهيار الأخلاقى والتراجع القيمى، فإذا كانت بعض الدول -مثل دولتنا- قد تبدو متماسكة، إلا أن (السوس) الحقيقى الذى ينخر عظامها هو غياب القيم، وانهيار السلم الاجتماعى، وتلك أبجديات الأمن القومى وسر بقاء الأمم وصلابتها وقوتها، ورحم الله أمير الشعراء حيث قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن *** هـمـو ذهـبـت أخــلاقـهـم ذهـبـوا
أضف تعليقك