سألت المبعوث الفرنسى الذى جاء إلى القاهرة لتسويق مبادرة بلاده لحل القضية الفلسطينية، لماذا تقدم باريس مشروعها فى الوقت الراهن الذى هو الأسوأ فى تاريخ القضية، فلا العرب صاروا يكترثون بها ولا الإسرائيليون باتوا راغبين فى التفاوض بشأنها؟ ــ رد الدبلوماسى المخضرم بيير فيمون قائلا: لأنه التوقيت الأسوأ فقد رأت فرنسا أنه الأنسب لتحريك الملف. سألته كيف فأجاب قائلا: إن الصمت يفاقمها ولا يساعد على إمكانية حلها فى المستقبل. وعدم الحل ليس مشكلة محلية أو إقليمية فقط، لأن أوروبا بدأت تعانى من آثار استمرار تعليق القضية واستمرار التوتر فى الشرق الأوسط. إذ علاوة على أن الاضطراب فى المنطقة يتسبب فى عدم استقرار دولها، فإن أوروبا لا تستطيع أن تقف متفرجة ومكتوفة الأيدى أمام زيادة معدلات العنف والإرهاب الذى وصل إلى دولها أو أمام أعداد المهاجرين الذين يستهدفونها.
قلت إن الأقطار العربية أصبحت مشغولة بهمومها الداخلية والساحة الفلسطينية تعانى من الانقسام وفى إسرائيل حكومة فاشية تجد فى الوضع العربى فرصتها التاريخية للتمكين والتمدد وحصد الجوائز المجانية، فهل هذا هو الوقت المناسب للحديث عن تسوية نهائية للقضية؟ ــ قال إننا ندرك هذه الظروف جيدا، ونعلم أن الرئيس الفلسطينى محمود عباس يجرى البحث عن خليفة له فى الوقت الراهن، ونجد أن الولايات المتحدة مشغولة بالانتخابات الرئاسية، وهذه الملابسات بالإضافة إلى ما ذكرت تشكل حوافز للمبادرة وليس مبررات لليأس أو تأجيل نظر الموضوع. لهذا دعونا إلى مؤتمر دولى للسلام يعقد فى باريس قبل نهاية العام.
استمر الحوار على ذلك المنوال مدة ساعة. أنا أحدثه عن عدم ملاءمة التوقيت وهو يدافع عن المبادرة رافضا اليأس والتراجع متمسكا بالأمل الذى يعتبره حجر الأساس فى العمل الدبلوماسى. ورغم موافقته على تحليل موقف الاستقواء الذى تنطلق منه الحكومة الإسرائيلية إلا أنه ــ وهو يتعلق بالأمل ــ يراهن على الضغوط الغربية والدولية التى يمكن أن تثنى الحكومة الإسرائيلية عن عزمها. وتدفعها إلى إعادة النظر فى مواقفها. أضاف فى هذا الصدد قوله إن غاية ما تريده فرنسا أن يجتمع الطرفان على مائدة المفاوضات لمناقشة خيارات المستقبل من مختلف الزوايا. وحين قلت له إن المسألة ليست الجلوس على طاولة المفاوضات، لأن الأهم من ذلك هو موازين القوى التى تتوافر لكل طرف. ومن هذه الزاوية فإن المفاوض الإسرائيلى سيصبح الفائز فى كل الجولات، بسبب أسباب القوة التى تتوافر له، يساعدها على ذلك أن بعض الدول العربية المهمة أصبحت أكثر تجاوبا مع الموقف الإسرائيلى لأسباب عدة منها أن قادتها أصبحوا يرون فى إيران خطرا أكبر وعدوا مشتركا للطرفين العربى والإسرائيلى.
فى هذه النقطة قال إن الرغبة الأوروبية فى التسوية واستئناف المفاوضات لا ينبغى تجاهلها. من ثم فإنها ستظل عنصرا مهما فى الحفاظ على التوازن الذى يسمح باستمرار سير المفاوضات وإيصالها إلى بر الأمان.
لم أجد كلام الدبلوماسى الفرنسى مقنعا، ولم أسترح إلى تفاؤله بإمكانية التوصل إلى حل من خلال المفاوضات أو بجدوى الضغوط التى يمكن أن تمارسها الدول الغربية لتليين موقف الحكومة الإسرائيلية، ورغم الشرح الذى قدمه لظروف إطلاق المبادرة إلا أننى لم أستطع التخلص من الشك فى دوافعها وتوقيتها أو فى مضمونها. إذ لم أستطع افتراض البراءة فى السعى لتحقيق تسوية نهائية للقضية فى حين أن أحد طرفيها ــ العرب بوجه أخص ــ فى أضعف حالاته، بينما الطرف الإسرائيلى فى أوج نشوته واستعلائه. حتى بدا لى فى بعض لحظات الشك أن يكون اختيار التوقيت مقصودا لانتزاع مزيد من التنازلات من العرب والفلسطينيين، بما يفتح الباب لتسوية نهائية تكون إسرائيل هى الفائز الأكبر والأوحد فيها، يؤيد ذلك أن المبادرة الفرنسية أولت اهتماما ملحوظا للاحتياجات الأمنية الإسرائيلية ولم تبد انشغالا يذكر بوضع الفلسطينيين، وتحدثت فى هذا الصدد عن تبادل مناطق بمساحات متفق عليها (قد تشمل مدنا وقرى وتجمعات فلسطينية داخل حدود ٤٨). ودعت إلى إجراء مفاوضات فى مدة لا تزيد على ١٨ شهرا، وإذا فشلت فى الاتفاق على حل الدولتين، فإن فرنسا ستعترف رسميا بدولة فلسطين منزوعة السلاح ومنزوعة السلطة أو الهيبة فى الضفة الغربية التى يسيطر المستوطنون على ٦٢٪ من مساحتها، وهو اعتراف بلا قيمة عملية ولن يقدم أو يؤخر.
من المفارقات أن إسرائيل المستقوية والمنتشية رفضت المبادرة الفرنسية، ليس فقط لأنها لم تعد مستعدة لكى تقدم شيئا أيا كانت تفاهته للفلسطينيين، وإنما أيضا لأنها لم تعد راغبة فى مخاطبتهم أصلا، بعدما نجحت فى اختراق العالم العربى وتحقيق التعاون الاستراتيجى مع بعض دوله الكبرى ــ حتى إذا رضينا بالهم فإن الهم لم يعد يرضى بنا.
أضف تعليقك