ثلاثة مواسم رمضانية مرت علينا منذ وقوع الانقلاب الدموي، أحسسنا فيها بمرارة شديدة لما آلت إليه أحوالنا، وقد كان الشهر الفضيل استراحة سنوية لتنشيط الروح، واستعادة الإيمان المفقود، وكان إطلالة على أحوال الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، في جو رباني مفعم بشتى ألوان البر والتعاون والإحسان.
مرت ثلاثة مواسم رمضانية أوذينا فيها كما لم نؤذ في عمرنا، فالمساجد صارت غير المساجد التي عهدناها تضج بالحركة وبالحب لا ينقطع فيها الذكر وتلاوة القرآن وحلقات العلم، الآن صارت تفتح بميعاد وتغلق بميعاد، وربما طُرد مصل منها قبل أن يتم صلاته؛ لأنه جاء متأخرًا والخادم قد أخذ قراره بغلق المسجد تنفيذًا لتعليمات الظلمة الفاسقين.
ألق نظرة على المصلين، وراقب العلاقة فيما بينهم؛ لتعلم أن الصف المسلم لم يعد مسلمًا، بل طوابير من البشر تزاحمت بصورة آلية؛ لتنصرف سريعًا بعد هذه الحركات (الأتوماتيكية)، أما الحب الذى حدثنا عنه المعصوم، أما التبسم، أما المصافحة فلا وجود لها، بل ترى كثيرًا من هؤلاء يضعون أيديهم على خدودهم، همًا وكربًا، أو ربما همهم أحدهم بكلمات غير واضحة وأشاح بيده كل فترة، يحدث نفسه بما وقع عليها من غموم وأحزان.
كنا ننتظر رمضان من بعد رمضان؛ لنقابل الأحبة ونستمتع برؤياهم؛ ولنسمع أصوات القراءة الخاشعة من أئمة حبسوا أنفسهم لكتاب الله فوعوه وفهموه وعملوا به، ثم قرءوه علينا، أما اليوم فتجد أشباه أئمة يصلون بالناس فلا تفهم شيئًا مما يقرءون، ولا تجد منهم عونًا على التدبر، ولم لا يحدث ذلك وهم الذين تم اختيارهم لينقلوا الدين كما يفهمه ضباط (الأمن الوطنى!!)؛ وليؤدوا طقوسًا شكلية ليقال إن الدولة ترعى الدين، ثم إن فاقد الشىء لا يعطيه، وهؤلاء موظفون ألقت بهم الأقدار فى هذا المكان، وقد نالوا استحسان وكلاء العسكر؛ لجهلهم ولكراهيتهم للواعين لدينهم المحافظين على بيضته.
وإذا خرجت من المسجد لا تخطئ عينك الأعداد الغفيرة من المتسولين، الذين يطوقون بيوت الله، ويستجدون المترددين عليها، وقد استفحلت هذه الظاهرة هذا العام؛ للغلاء الذى حل بالناس، وللتخريب الذى طال العمل الخيرى، وللوقيعة التى تسبب فيها العسكر بين فئات المجتمع، فإن أيادى كثيرة كان تخرج الدينار والقنطار قد أمسكت؛ لما رأت من سلوك استفزازى من جانب المحتاجين الذين استغلهم الانقلابيون للرقص أمام اللجان أو فض المظاهرات السلمية، أو التحرش وإسالة دماء أهل الشرعية وأصحاب الحقوق.
وإذا نظرت إلى الشوارع رأيت تجهمًا لا يليق برمضان، الناس تائهون، كأنهم فى سكرة، يسيرون بغير هدى، غرباء فيما بينهم، يقارنون بين حالهم الآن وحالهم فيما مضى؛ إذ كانت الشوارع مزدانة بالأنوار والزينات، والجيران يتسامرون، والمارة يتصافحون، وأصحاب الحوانيت فى شغل عما يدور حولهم لكثرة زبائنهم ورواج تجارتهم، لكن لا تفارقهم البسمة الحلوة، ولا يتوانون عن مساعدة الفقير، وعون العاجز الكبير.. أما مناحى البر والخير فحدّث ولا حرج، ولكم جرت مواقف كنا فخورين بها، مرددين: لن تضيع المرءوة والوفاء من أمة محمد أبدًا، ففى هذا الشهر -فيما مضى- كنت تجد من يستوقفك فى الشارع يقول لك يا فلان: سمعت أنك تجهز (شنطة رمضان)، تقول: نعم، يقول: (عندى مواد لتعبئة 30 شنطة)، وآخر يتصل بك يقول: اجمع لى خمسين فقيرًا لتفطيرهم بعد يوم أو يومين، وثالث، ورابع وعاشر..
أين ذهب هذا البر؟ أين هؤلاء الناس الآن؟.. هم -بالتأكيد- موجودون، لكنهم يعيشون متحسرين على ما آلت إليه الأحوال، فالناس على دين ملوكهم، إن كانوا أخيارًا فهم أخيار، وإن كانوا فجارًا فهم كذلك، أى لا يهتدون إلى بر، ولا يعرفون الخير، ولا يأنسون لمعروف، بل كل همهم أن يعيشوا يومهم، يُطعمون من أى مصدر، حلالا كان أم حرامًا، يرضون بالدنية ويعيشون عيشة الأنعام.
اللهم يا كاشف الغم، فارج الهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، واجعل العاقبة لنا، واجعل الدائرة تدور على من منع مساجدك أن يذكر فيها اسمك وسعى فى خرابها، وعجل يا ربنا بالفرح، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
أضف تعليقك