تلقيت اليوم الإثنين 22 رمضان 1437هـ / 27 يونيه 2016م خبر وفاة أخي الأكبر الأستاذ رضا البيطار، والذي عاش مجاهدًا مطاردًا، صابرًا على ما ابتلاه الله به من المرض جراء التعذيب الوحشي الذي تعرض له فترة اعتقاله، فأكرمه الله بالشهادة كما تمنى (نحسبه ولا نزكيه)، وتلك بعض خصاله وما كان بيننا وبينه من ذكريات محبة وجهاد.
الأستاذ رضا محمود البيطار - قرية المنا صافور / مركز ديرب نجم - محافظة الشرقية، 46 سنة - متزوج ولديه (ولد و3 بنات)، يعمل إداريا بإحدى مدارس الطور بجنوب سيناء، وكان رحمه الله مجاهدا في الحياة يتكسب رزقه من عمل يده.
كان رحمه الله كريم المعشر، جوادً، معطاءً، حلو اللسان، عذب الكلام، مثقف الفكر، قارئًا، محبًا للعلم، متواضعًا من غير ضعف، عزيزًا من غير ذل، محافظًا على الصلاة، قارئًا للقرآن وحافظًا له، راضيًا بما ابتلاه الله به من المرض، محتسبًا أجره عند الله.
التحق رحمه الله منذ الثمانينات بدعوة الإخوان المسلمين بالقرية، فكان مثالًا للأخ العامل المجاهد الصادق، لا يعرف كسلًا ولا خمولًا، مثالًا في السمع والطاعة في المنشط والمكره، سبَّاقًا في أعمال الخير والبر، وقد تعرض للابتلاء في فترة التسعينات حيث تم فصله من عمله بأوامر من أمن الدولة، فقام برفع دعوى قضائية، وبعد سنوات عاد لعمله ولكن هذه المرة بمدينة الطور بجنوب سيناء.
كان رحمه الله نفحة صادقة في اعتصام رابعة العدوية، خدومًا لإخوانه عطوفًا على الصغير قبل الكبير، مبتسمًا دائمًا، مستحضرًا عظمة الله في قلبه، لا يخاف في الله لومة لائم، بل جسورًا في الحق مقدامًا عند النزال، وقد كان رحمه الله بسيارته الربع نقل يحمل جثمان إخوانه الشهداء والجرحى في مذبحة الحرس الجمهوري والمنصة ومجزرة رابعة، وقد تعرض -أمامي- لطلقات الرصاص المباشر أكثر من مرة، ولكن الله سلم.
كان آخر عهدي به رحمه الله يوم فض رابعة عصرًا بالخيمة، وقد تعانقنا ثم افترقنا، وفي حدود الساعة السابعة مساء انقطع به الاتصال، حيث تم اعتقاله بعد فض الميدان.
حكى لي رحمه الله مقدار ما تعرض له من العذاب المهين في قسم أول مدينة نصر، حيث استفرد به أفراد الأمن الوطني (أمن الدولة) وطرحوه أرضًا، وانهالوا عليه ضربا في بطنه وظهره، مما أصابه بتليف الكبد وإفساد الطحال والكلى، فكان رحمه الله شهيدًا يمشي على الأرض. بعد ذلك تم ترحيله إلى معتقل أبو زعبل، ثم أفرج عنه في شهر أكتوبر 2013م، على ذمة القضية المشهور بقضية اعتصام رابعة، وقد بلغ به المرض مبلغه.
حكى لي رحمه الله أنه أثناء سفره إلى الطور لتلقي العلاج بالمستشفى، اقتحمت داخلية الانقلاب منزله بالطور لاعتقاله، فوجدوه طريح الفراش والعرق يتصبب من رأسه، فتركوه خوفًا أن يموت منهم بالطريق، بعد أن روَّعوا زوجته وأولاده.
كان رحمه الله لديه أمل كبير أن يشفيه الله من مرضه العضال، وكان يحكي لي ما يراه من علامات الاندهاش والتعجب التي كان يلحظها على وجوه الأطباء في الطور وفي ميت غمر والزقازيق، إذ كيف لرجل يمشي على الأرض وما زال على قيد الحياة وقد تفتت عنده الكبد والطحال والكلى فضلا أنه يعاني سيولة الدم!، فكان يبتسم ويقول لي: كنت أحكي لهم أني اعتقلت ظلما وضُربت ظلما، فأراد الله أن يجعلني آية تمشي بينهم، وأسأل الله أن يتم شفائي على خير.
كان الأستاذ رضا البيطار ممن له بصيرة حادة وفراسة قوية، فكان يعرف ما يدور في ذهنك قبل أن تبوح به، ويتفرس في وجهك ما تريد قوله. من ذلك، حكي لي أن الأطباء حددوا له موعد العملية، ولما فتحوا بطنه وجدوها كالعجينة من تفتت ما بها، فأغلقوها كما فتحوها، ولم تتم العملية، وبعد أن أفاق من البنج، وزاره الطبيب، تبسم في وجهه وقال له: تمت على خير، فقال له أستاذ رضا: أصدقني القول ولا تكتم عني فإن العملية لم تتم. فتعجب الطبيب وصدقه. ومع ذلك كان رحمه الله راضيًا محتسبًا صبورًا.
كنت دائم السؤال عنه رحمه الله، وكنت أجمع إخواني لنزوره في شقته المؤجرة بالقرية بحارة آل العطار عند الميكنة، وذات مرة اتصل عليَّ وأخبرني أنه يريد أن يعلمني بشيء، فذهبت إليه، فحكى لي أنه أثناء جلوسنا عنده بالأمس اتصل أحد جيرانه (لا سامحه الله ولا بارك له) بالشرطة أن الإرهابيين مجتمعون عند رضا البيطار، لولا أن أحد الخفر اتصل بأخيه وأخبره باتصال الجار. ثم نظر إليَّ متأثرًا وقال: "تعلم أن أولاد هذا الجار لا يحلو لهم اللعب إلا مع أولادي هنا بالشقة ليل نهار"، قلت له: وماذا ستفعل معه؟ قال لي: لا شيء، حسبنا الله ونعم الوكيل ..
ومع أنه رحمه الله كان مريضًا ولا يستطيع الحركة، إلا أنه لم يسلم من أذى الأفاقين والكذابين والحقدة المجرمين، فذات مرة أجَّر سيارة لتنقل له بعض اللوازم لشقته، وكان ذلك بعد العشاء، فتناقل الكذبة أن رضا البيطار يحمل أسلحة في شقته حتى جاء الجيران وتأكدوا من كذب الخبر.
ومع ذلك كان رحمه الله محسنًا لجيرانه غير مؤذٍ لهم، ممثلًا صورة حسنة للمسلم الصادق، حكي أنه في مساء ذات يوم شم رائحة شياط وكأن نارًا تشتعل، فقاوم نفسه ليعتدل ويرى ما الأمر، فشاهد دخان يخرج من منزل جاره بالشارع الخلفي، ولأنه لا يستطيع الحركة، أصرَّ أن يرسل زوجته لتنقذ بيت جاره وتعلمهم بالخبر، ذهبت زوجته ولم تجد بالمنزل أحدًا، فأخبرت مَن بالشارع واجتمع الناس، وكان سبب الحريق مس كهربائي، وقد خاف الجميع من دخول المنزل، فما كان من زوجته الشجاعة إلا أن اقتحمت المنزل وأنزلت سكين الكهرباء وأغلقت أنبوبة الغاز بالمطبخ، وسلم الله الناس من الحريق. ثم قال لي: تعلم ماذا قال الجيران لزوجتي بعد أن انصرف الناس، قالوا لها: "احنا آسفين ليكم .. ما كناش نعرف إن الإخوان محترمين كدا .. كنا بنحسبكم إرهابيين". وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما عن قصة سيارته الربع نقل، فقد حكى لي أنه تم عرضها للبيع ولكن تم رفض شرائها، فقد أشاع الأفاقون أنه يسكنها (عفاريت)؛ لأنها كان ينقل عليها شهداء المنصة ورابعة، ولكن الله أخزاهم بكذبهم وأبدله خيرا منها أضعافا . ويقول لي: سبحان الله نحسن إليهم ويسيئون إلينا!!
منذ يومين اتصل بي رحمه الله وطلب مني أشتري له جهاز تنفس صناعي وأرسله له بالمستشفى في الطور، وقد غلب عليه التعب وضيق التنفس، ثم دعا لي وودعني، فقلت لمن بجواري: هذا الأستاذ رضا وكأنه يودع الحياة .. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان رحمه الله يقول لي: ادع لي يا أبو الروميساء ربنا يشفيني أو يجعلني من الشهداء. وكان يقول لي: "اهو ربنا بيخفف ذنوبنا بالمرض وبينضفنا من المعاصي، أنا مش خايف على ولادي، فربنا سيخلفني فيهم بخير .. ولكني أتمنى أن أرى نصر الله وفرجه وخروج جميع إخواننا المعتقلين".
واليوم مات الأستاذ رضا البيطار، ولا يستطيع أحد من إخوان قريته -إلا القليل- أن يصلي عليه، فهم بين معتقل ومطارد، وسنصلي عليه غائبا بعد أن حيل بيننا وبين الصلاة عليه حاضرا، وأدعو جميع إخواني بصلاة الغائب على الشهيد بإذن الله، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله"، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فرحم الله الوردة التي كانت بيننا بشكلها البهي ورائحتها الزكية، وأسكنها منازل الشهداء الصادقين، وانتقم الله ممن ظلمه أو شمت به أو أذاه، وأذاق الله جلَّاديه في أكبادهم ما يتمنون به الموت ولا يرونه.
أضف تعليقك