الجميع يتحدثون عن المستقبل، من دون أن يخرجوا من الماضي.
هل يمكنك السفر إلى المستقبل، من دون حسم ملفات الماضي العالقة، وإنجاز استحقاقات الحاضر؟
يطرح السؤال نفسه في قلب متاهة الكلام الثوري المنمق حول موائد الثرثرة، ليخرجوا على الناس بما هو أخطر من ألاعيب السلطة في مصر، حين يحاولون إقناعك بأن ثورة يناير من الماضي، وأيضا خطيئة انقلاب يونيو فعل ماضٍ، ولابد من معادلات جديدة كليا، يذهبون بها إلى المستقبل.
وأظن أن تلك بمثابة جمرة خبيثة، لو تُرِكتْ فسوف تلتهم كل ما فات، وكل ما هو آت، إذ يبدو المستهدف الوحيد منها شطب موضوع الاعتداء على سلطة منتخبة ديمقراطيا من جدول قضايا مصر الأساسية، بما يستتبعه من محو اسم محمد مرسي، إذ لم يعد أحد يريد أن يأتي على اسم الرجل، وهو يخطط للمستقبل في أبراجه العاجية، وكأن المطلوب هو إغلاق الماضي على رقبة الرئيس محمد مرسي، كي ينعم كل الذين تم استخدامهم في كارثة الانقلاب بالمستقبل.
مدهش حقا أن صغار وأشبال الوحوش الكاسرة، التي أطلقوها على الرئيس ، بعد انتخابه، وأبلت بلاء حسنا، في أعمال النهش والافتراس، لصالح الضواري الأكبر، تريد أن تقنعنا الآن بأنها الأكثر وعيا، والأشد حرصا على الثورة، التي جاءت بالرئيس الذي عقروه.
الجميع أبرياء وطيبون، وأكفاء، باستثناء محمد مرسي، هذا هو الحل السهل، المريح، الذي توصل إليه الخارجون من معسكر الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 ومن ثم يعتبرون كل كلمة تدعو للتوقف بالدراسة والتحليل لمقدمات ونتائج هذه الخطيئة التاريخية، التي أوقعوا فيها ملايين البسطاء، تعطيلا لمشروع الاصطفاف، الذي يسبح في الفضاء الخارجي منذ عامين على أقل تقدير.
لم تعد المسألة بحاجة إلى أدلة لإثبات أن الكوارث السياسية والمجتمعية والحضارية التي تحيط بمصر حاليا هي الحصاد المر لتلك الرقصة المجنونة على الموسيقى العسكرية، وكأن التاريخ يقدم اعتذاراته يوميا لمحمد مرسي، عن الجريمة التي نفذت بحق ثورة يناير، قبل أن تصيبه هو شخصيا، بينما يأبى المهرولون إلى المستقبل أن يعتذروا عن دورهم في إفساد الماضي الذي كان واعدا، بل إنهم حتى لا يجيبون عن أسئلة الحاضر: ماذا أنتم فاعلون في الرجل الذي يقبع في زنزانته، حال زوال الانقلاب؟.
ما قولكم في الدماء التي سالت أنهارا، ولا تزال تسيل حتى الآن؟
عفا الله عما سلف، أم أن الحي أبقى من الميت؟.
أم أنه في موسم غسيل المواقف والتخلص من أدوات جريمة خداع الجماهير، ليس مسموحا لأحد بطرح الأسئلة، والمحاسبة على ما فات؟.
حسنا، لن يناقشكم أحد في أن الرئيس ارتكب أخطاء في الحكم، فماذا عن أخطائكم، بل خطاياكم؟!
لماذا يكون مطلوبا من الجماهير أن تتسامح مع"النزوة الثورية" التي خلفت وراءها آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من المحبوسين والمطاردين، بينما لا تسامح مع كل من يريد أن يحرر الماضي من الأكاذيب والأوهام، بحجة شراء المستقبل.
فلينعم الصهاينة بهذه النظرية العبقرية، وليستمتع كل سارق بما سرق، وكل ناهب بما نهب، وليهنأ الأوغاد والانتهازيون بصك الغفران المستقبلي، وفي المقابل، لا عزاء لمن قلت عنهم في لحظة الجنون يونيو: حزيران 2013: طوبى لمن لم يتسللوا، كاللصوص والبغايا، إلى الغرف السرية في فنادق الجنرالات، لتلقي الأوامر والتعليمات وإرشادات التمرد فوق ظهور الدبابات والمجنزرات، وبقوا صامدين قابضين على جمر يناير، بينما كانت كل المؤشرات تقول إن من لا يلتحق بقطار يونيو سوف تدهسه عجلاته الثقيلة.
طوبى لمن رفضوا "الثورة على ثورتهم"، ولم ينصتوا لأيقوناتها التي خانت نضالها، وباعت تاريخها، وراحت تجوب عواصم العالم تتسول العون، وتحرّض المجتمع الدولي على نظام منتخب ديمقراطياً، بحديث كاذب عن دستورٍ، لا يعترف بالهولوكوست.
في كتابه "روح الإنسان" كتب روبرت بريدجز "ربما نتبين أن حماقاتنا وآثامنا القومية قد استحقت العقاب..وإذا كنا لا نستطيع نحن أنفسنا أن نبدو في هذه التعرية للعفونة أبرياء تماما، فإننا مازلنا أحرارا وصادقين مع أنفسنا، وفي وسعنا أن نطمع في تكفيرها عنا من خلال الندم".
حقا: فلنكن أحرارا وصادقين مع أنفسنا، وإذا كان غير قادرين على إزاحة كابوس الحاضر، فليس أقل من أن نحاول الدفاع عن الرواية الصحيحة للماضي، الذي ليس بماضٍ.
أضف تعليقك