• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كتشف وزير الأوقاف أن أئمة المساجد فى مصر لا يجيدون الخطابة، وأنهم بالكاد يجيدون القراءة. ولأنه حريص على استمرار دورهم فقد استلهم فكرة عبقرية وجد فيها الحل السحرى للمشكلة، تمثلت فى كتابة خطبة بليغة ومحكمة توزع على الجميع. وأدرك بذلك أنه يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. إذ تصور أنها من ناحية تستر عجز الخطباء الذى افترضه. ومن ناحية ثانية تنور الناس بالفكر المعتدل الذى يحصنهم ضد التطرف. ومن ناحية ثالثة فإنها تطمئن الأجهزة الأمنية على أن المساجد صارت تحت السيطرة وأنه قام بواجبه فى الترشيد وضبط المنابر على بوصلة السلطة و«قِبلتها». وثمة «عصفور» رابع يتعلق بإشباع تخصص الوزير الذى هو فى الأصل أستاذ للبلاغة، وربما أتاحت له الخطب المكتوبة أن يستعرض فصاحته وموهبته.

فى تبرير ذلك ومحاولة اقناعنا بصواب وحكمة قراره، قال الوزير الدكتور محمد مختار جمعة أن ما أقدم عليه ليس فيه تقييد للخطباء ولا حجر عليهم، وليس فيه أى مخالفة شرعية. وأضاف فى تصريحات صحفية أن هدفه برىء فى ذلك، وإنه ما أراد إلا الإصلاح والارتقاء بمستوى خطب الجمعة، فضلا عن أن مسعاه ليست له أية دوافع سياسية.

بهذه التصريحات أبرأ الوزير ذمته، وتصور أنه اقنع الأئمة بمبرراته، كما أنه اقنع الرأى العام بصواب قراره وبعد نظره. وما أدهشنى ليس فقط أن يقول الوزير هذا الكلام، وأن يتصور أن ما قاله يمكن أن ينطلى على أحد. حيث لم أتوقع أن يبلغ به سوء الظن هذه الدرجة، فيفترض فى الأئمة السذاجة ويفترض فينا الغباء والبلاهة، بحيث يمكن أن نصدق أن ما جرى ليس قرارا بتأميم المساجد وإخضاعها، ليس فقط إلى سلطان الدولة ولكن لإدارتها بالكامل لحساب جهاز أمن الدولة.

الفكرة التى تبناها الوزير الهمام ليست من ابتكاره ولكن لها أصلين أحدهما برىء والآخر غير برىء. فى الأصل البرىء أن خبرة المجتمعات الإسلامية شهدت محاولات مماثلة إما لتيسير المهمة على الخطباء والأئمة أو لتوفير خطب نموذجية لأئمة مساجد الأرياف الذين قد لا يتوفر لهم حظ كاف من التمكن من الفقه وفنون الدعوة. فى هذا الإطار ظهر ما سمى بدواوين خطب الجمعة والعيدين واشتهر ديوان خطب ابن نباتة خطيب حلب (عبدالرحيم محمد بن نباتة) الذى اشتهر بفصاحته وقوة بيانه. وظهر فى بلاد الشام قبل أكثر من ألف عام حين نشبت حرب الحمدانيين ضد الروم. فلجأ إلى كتابة وإلقاء الخطب التى تحث على الجهاد. وقد جمعت تلك الخطب فى كتاب حمل اسمه. كما عرف ديوان خطب الشيخ محمود خطاب شيخ الجمعية الشرعية وديوان خطب الدكتور أحمد الحوفى أستاذ الأدب بكلية دار العلوم وديوان خطب الجمعة وفقا لتعاليم الإسلام للشيخ الدكتور محمد سالم محيسن... إلخ.

القاسم المشترك بين تلك الدواوين تمثل فى أنها صدرت تطوعا من جانب بعض العلماء والباحثين، ثم إنها لم تكن ملزمة لأحد، حيث كانت اختيارية وظلت توظف للاسترشاد وخاضعة لاختيار الخطباء وانتقائهم.

الأصل غير البرىء كانت دوافعه سياسية وليست دعوية. وبرز ذلك الاتجاه بصورة قوية أثناء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك. ذلك أن تنامى ظاهرة التطرف والعنف فى أواخر حكم السادات، دفع الأجهزة الأمنية إلى محاولة التحكم فى دور المساجد. وتمثلت الخطوة الأولى فى ذلك الاتجاه فى التدقيق فى الخطباء واشتراط حصولهم على تصاريح بالخطابة من لجنة خاصة ضمت بعض المسئولين فى وزارة الأوقاف وممثلين عن جهاز أمن الدولة. وكان القرار الأخير فى إصدار التصريحات بيد ضباط أمن الدولة. أذكر فى هذا الصدد أن الدكتور محمود الجليند أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم كان يخطب الجمعة فى مسجد قريته بمحافظة البحيرة، وحين تقرر اشتراط حصول الخطيب على تصريح الوزارة، فإنه وجه رسالة بذلك إلى وزير الأوقاف آن ذاك الذى كان زميلا له. فإن الوزير تحرج من الطلب فبعث إليه بالتصريح فى مظروف مغلق مع بطاقة باسمه عليها تأشيرة للوزير قال فيها: أرجو عدم استعماله. تكرر ذلك مع الشيخ جمال قطب الذى كان رئيسا للجنة الفتوى بالأزهر وأحد الذين يجيزون التصاريح للائمة، وكان فى الوقت ذاته خطيبا لمسجد مصطفى محمود بحى المهندسين. ذلك أنه حين ترك منصبه وتفرغ للدعوة والبحث، فإن اللجنة رفضت اعطاءه تصريحا بالخطابة لأنه لم يكن مرضيا عنه.

ليس سرا أن الاعتبار الأمنى صار العنصر الأساسى فى كل الإجراءات التى اتخذت لممارسة أى نشاط فى المساجد حتى صار الاعتكاف مشروطا بإبراز بطاقة الرقم القومى. كما أنه وراء اشتراط الحصول على تصريح للخطابة. وقد وجدوا أن ذلك لم يكن كافيا لأن الأجهزة الأمنية لم تكتف بتوجيه الخطباء للحديث فى موضوعات بذاتها، ومن ثم ظهرت الفكرة العبقرية التى تبناها وزير الأوقاف ودعت إلى إلزام الائمة بخطب مكتوبة سلفا. وذلك لكى لا يتم التحكم فى أفكارهم فقط ولكن أيضا فى الصيغة التى يعبرون بها عن تلك الأفكار. ولست أشك فى أن الخطب سيكتبها لغويون فصحاء ربما كان فى مقدمتهم الوزير أستاذ البلاغة، لكننا سنكون واهمين إذا تصورنا أن ممثلى الأجهزة الأمنية لن يتولوا إجازتها وربما تنقيحها.

لا أعرف ما إذا كان ذلك يندرج ضمن تجديد الخطاب الدينى أم لا، لكن الذى أثق فيه أن الخطب المكتوبة ستكون أكبر هدية يقدمها الوزير الهمام لجماعات التطرف والعنف، لأن ذلك سيجعل الشباب يصمّون آذانهم عن الخطب الحكومية والأمنية وسيبحثون عن بديل آخر متحرر من بصمات السلطة وتوجهاتها. لذلك لن استبعد أن يتلقى الوزير قريبا برقية من قادة «داعش» تعبر عن امتنانهم يقولون له فيها «نشكركم على حسن تعاونكم».

أضف تعليقك