جاءني وقد (سنّ) أسنانه، لسانه يلهث، وقلبه ينبض، وفجأة علا صوته: تكرهون السيسي لأنه انقلب على رئيسكم، وتحبون أردوغان وتدعون له لأنه آواكم في دياره.
قلت: ألم يقل ربنا: "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" [الرحمن: 60]؟!
علت نبرته وقال: لماذا فرحتم هذا الفرح بفشل الانقلاب على أردوغان؟
فقلت: هوّن على نفسك، واهدأ فالأمر بالنسبة لي دين.
فقاطعني قائلا: دين؟
قلت: نعم. دين وعقيدة، أحبه تقربا إلى الله، وأحزن لما ألمّ به تقربا إلى الله، وفرحت لفشل من عاداه تقربا إلى الله.
انتفض واقفا؛ بعد أن انتفخت أوداجه واحمرت عيناه ثم علت نبرت صوته قائلا: وما دليلك على هذا؟ أريد دليلا على ذلك؟
قلت له: اجلس نتحاور، فمرحبا بالحوار، ولا حاجة لي ولا لك إلى علو الصوت والشجار.
قال: أريد دليلا.... دليلا أريد!!
من أين أتيك بالدليل؟ من كتاب أو سنة؟ اختر ما شئت؟
قال: منهما إن استطعت؛ فإن عجزت فمن أيهما وجدت.
قلت: خذ من الكتاب فهو المقدم عندنا، قال تعالى: "الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" (الروم-5)، وقد فرح المسلمون بنصر الروم على الفرس، والروم أهل كتاب الفرس عبدة النار.
قال: ومن أين جئت بفرح المسلمين؟
قلت: روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ المُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ "الم غُلِبَتِ الرُّومُ" إِلَى قَوْلِهِ - "يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ" قَالَ: "فَفَرِحَ المُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ". قال: لعل الحديث ضعيف ففي الترمذي صحيح وضعيف.
قلت: صدقت فيه الصحيح والضعيف، لكن هذا الحديث صحيح، وقد صححه الألباني.
قال: لكنم كنتم ليلة الانقلاب تدعون لأردوغان وتأمرون الناس بالدعاء له.
قلت له: بل صلى الناس قيام ليل، وختم آخرون ختمات، وعلت الأصوات في الحرم دعاء وتضرعا.
قال: فما دليلكم على ذلك؟
قلت: له روى أحمد من حديث جعفر بن أبي طالب؛ وفيه: "وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ - قَالَ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ - قَالَ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا، قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ".
فإذا حصل هذا مع النجاشي، وقد كان قبل إسلامه، فكيف بمن آوى ملايين المشردين من سوريا واليمن والعراق ومصر وفلسطين؟! كيف بمن أعاد روح الإسلام إلى تركيا، فأعاد الحجاب، وأعطى للمدارس الإسلامية الحق في ممارسة نشاطهم.
قال: وهل الحديث صحيح؟
قلت له: لا تعجل، فقد حسّن إسناده شعيب الأرنؤوط، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
قال: ولماذا حرّمتم الخروج والانقلاب عليه؟
قلت: الخروج عليه حرام بلغة الشرع، والانقلاب عليه مرفوض بلغة السياسة.
قال: كيف هذا؟ أفصح. أبن!!
قلت: أما الشرع فالحاكم الذي جاء بإرادة الأمة للمة نصحه وتقويمه، بل هذا واجب عليها وحق له، وفي المسند بإسنا صحيح عن أبي هريرة : "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ... " لكن الخروج عليه بالقوة محرم شرعا، وفي مسلم من حديث عرفجة: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ"، وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو:" مَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ".
وأما بلغة السياسة: فمن جاء بالصندوق، لا يرحل إلا بالصندوق، وزمن الانقلابات العسكرية ولّى، وليس له مكان إلا في الشعوب المتخلفة، التي ترضى بالعسكر سيدا، وبالبيادة خدينا.
قال: للرجل عيوب ومثالب، ونظامه ليس نظاما إسلاميا.
قلت: أردوغان ليس نبيا ولا قديسا، وحكمه ليس حكما راشدا، لكنه الأفضل والأحسن والأجدر ربما في عصرنا هذا، وهو يسعى، والله يعينه، إنه لم يفرض نفسه على الشعب بل شعبه الذي اختاره، وهو لكل لقضايا الأمة نصير، فمواقفه في سوريا لا تنكر، وفي فلسطين معروفة مشهورة، وحدث مثل مع العراق، وأما بورما فيكفي أنه النظام الوحيد الذي اتخذ موقفا من النظام البورمي الذي شرد المسلمين.
قال: وماذا عن العري والفساد في تركيا؟ هل هذا من الإسلام؟
قلت: هذا ليس من الإسلام... بل جاء الإسلام بمحاربة العري والسفور.
قال: فلماذا يسكت عليه؟ أليس حاكما ومعه القوة؟
قلت: إن الحاكم مأمور بالتغيير، والتغيير لا يأتي فجأة، ولعل في موقف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز دليلا له، فقد قال لمن استعجله الأمر: "لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة"، وقال: "ألا وإني أعالج امرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره".
قال: أليس الرجل قد أعاد العلاقات مع (إسرائيل) فلما كل هذا التطبيل؟
قلت: هو أخذ بما يحقق لأهل غزة أخف الضررين، فأهل غزة محاصرون برا وبحرا، ولا جو لهم، حاصرهم الأعداء والأصدقاء، وقبل أن تلوموا من تعامل مع اليهود من أجل مصلحة جياع ومرضى غزة، لوموا من غلق معبر رفح من أجل مصلحة اليهود.
قال سؤال آخير: ماذا لو تدخل الدين في السياسة والسياسة في الدين؟
قلت: لأن الدين عندنا والسياسة عندنا دين، والإسلام لا يعرف هذه القسمة إنها "قسمة ضيزى"، فما كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تعرف هذه القسمة، بل كان هو القائد والحاكم والقاضي وقبل هذا كله هو النبي المجتبى والرسول المصطفى، فأمة الإسلام واحدة، وقد قال ربنا: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء-92)، وفي الصحيحين: عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ... والمسلم أينما كان أخ لين وقد أحسن الشاعر حين قال:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
ثم أردت أن اختم حديثي فقلت: لهذا أحببته، فلماذا أحببتم أنتم كل من يعادي الدين؟
فسكت ثم قال: شرح الله صدري وصدرك للحق.
فقلت له ردد معي ما رواه مسلم في صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "إذا افتتح قيام ليله: اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
فرددها... ورددتها معه... ثم سكت وانطلق.
دكتور. أكرم كساب
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أضف تعليقك